على مدى العقدين الماضيين، اجتاحت منطقة الشرق الأوسط حالة من عدم الاستقرار المزمن، والتي اتسمت بالحروب الأهلية، والتدخلات الأجنبية، وانهيار الدولة، وانتشار الميليشيات المسلحة. وفي أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي، عانت العديد من الدول - سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، ولبنان- من ضعف السلطة المركزية، وانتشار العنف، وصعود الميليشيات الطائفية والقائمة على أساس أيديولوجي، ولدى العديد منها أذرع عابرة للحدود الوطنية.
تشكل بيئة كهذه تحديًا فريدًا للاتحاد الأوروبي، الذي لطالما حرص على تنصيب نفسه كلاعب مؤثر في مجال القوة الناعمة وداعم للسلام، والاستقرار، وسيادة القانون. ومع استغلال الميليشيات المسلحة وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة الفراغ في السلطة والانقسام الطائفي، أثيرت التساؤلات حول قدرة الاتحاد الأوروبي ورغبته في الانخراط مع مثل هذه الجماعات. وهل بوسعه الاضطلاع بدور فعال في نزع السلاح عن الميليشيات وتعزيز الانتقال السياسي ومخاطبة الجهات الفاعلة في تيار الإسلام السياسي دون المساس بمبادئه؟
يتناول هذا المقال دور الاتحاد الأوروبي في مواجهة الميليشيات المسلحة وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة داخل المنطقة مع التركيز على خمسة دول رئيسية: سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، وليبيا. كما يُقيم الانعكاسات الأوسع نطاقا على التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي" الناتو" ومعالجة المخاوف المُحيطة بتواجد الجماعات الإسلامية المتطرفة داخل أوروبا.
- استعراض لخريِطة الميليشيات المسلحة وحركات الإسلام السياسي
يعد وجود الميليشيات المسلحة مُتأصلًا بعمق داخل المشهد السياسي والطائفي الداخلي لكل دولة من الدول الخمس المذكورة أعلاه. وتتباين هذه الجماعات بشكل كبير من حيث الحجم، والعقيدة، ومستوى الدعم الخارجي الذي تلقاه، وعلاقاتها مع مؤسسات الدولة.
على الصعيد السوري، ساهمت الحرب الأهلية في صعود مجموعة واسعة من الجماعات المسلحة التي تتراوح ما بين الفصائل الجهادية مثل "هيئة تحرير الشام" إلى الميليشيات المدعومة من إيران مثل "لواء فاطميون". فيما اعتمد نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بصورة كبيرة على الميليشيات المسلحة بما في ذلك قوات الدفاع الوطني والمقاتلين الأجانب من الشيعة.
لا يختلف الوضع كثيرًا في العراق الذي يستضيف على أراضيه شبكة معقدة من الجماعات المسلحة العاملة تحت مظلة قوات الحشد الشعبي، ولدى العديد منها روابط وثيقة مع إيران. وفي حين أنه تم دمج بعض فصائل قوات الحشد الشعبي رسميًا داخل مؤسسات الدولة، تعمل فصائل أخرى بشكل مستقل وتظل مصدرًا للتوتر مع الحكومة المركزية.
أما في لبنان، فتعتبر جماعة حزب الله الجهة الفاعلة المسلحة غير الحكومية المهيمنة. وهي تجمع ما بين حضور سياسي بارز داخل البرلمان وميليشيا مسلحة مدعومة من إيران. فيما تحتفظ فصائل أخرى مثل حركة "الأمل" وبعض الجماعات الفلسطينية بقدرات عسكرية.
وفيما يتعلق بالأزمة في اليمن، تعاني البلاد انقسامًا ما بين جماعة الحوثي، التي تسيطر على العاصمة وبعض الأجزاء من شمال البلاد، والمجلس الانتقالي الجنوبي، بالإضافة لوجود مجموعة من الميليشيات القبلية والإسلامية. ويتلقى معظمها دعمًا خارجيًا لاسيما من جانب إيران ودول خليجية.
في ليبيا، لا تزال الأوضاع غير مستقرة مع مواصلة الميليشيات المتناحرة سيطرتها على الأراضي رغم محاولات تحقيق وحدة وطنية. كما تحظى حكومة الوحدة الوطنية والجيش الوطني الليبي بدعم من قبل مختلف الفصائل المسلحة ذات التحالفات المُتغيرة.
في مثل هذا السياق، غالبًا ما تعمل حركات الإسلام السياسي مثل جماعة الإخوان المسلمين، وحزب الله، وآخرين- باعتبارها أطراف فاعلة هجينة مما يؤدي لطمس الحدود الفاصلة ما بين السياسة، والدين، والقوة المسلحة. وتختلف رغبتها في التجرد من السلاح أو الاندماج داخل مؤسسات الدولة باختلاف انتمَاءاتها والسياق المجتمعي لها.
- 3. النهج الأوروبي في التعامل مع الميليشيات المسلحة وجماعات الإسلام السياسي
يتسم النهج الأوروبي تجاه منطقة الشرق الأوسط بمزيج يجمع ما بين المُشاركات الدبلوماسية، والمساعدات الإنسانية، والتعاون الأمني، والترويج للقيم الأوروبية. كما يحافظ الاتحاد الأوروبي على اعتماد موقف دقيق في مقاربته للجماعات الإسلامية والميليشيات بحيث يميز ما بين المنظمات الجهادية المسلحة المندرجة تحت قائمة الكيانات الإرهابية (مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية داعش) والحركات السياسية التي لديها مشاركات في الانتخابات المحلية أو مقاليد الحكم. ومن خلال أدوات السياسة الأوروبية المتاحة مثل آلية عمل "سياسة الجوار الأوروبي" و"الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي". ولطالما سعى الاتحاد الأوروبي لدعم التسويات السياسية الشاملة وتعزيز دور مؤسسات الدولة، مع ذلك، غالبًا ما تكون مشاركته مُقيدة نتيجة الافتقار إلى سياسة خارجية موحدة ونفوذه المحدود على مستوى الشؤون الأمنية.
في لبنان، أبقى الاتحاد الأوروبي على قنوات الحوار مفتوحة مع كافة اللاعبين السياسيين بما في ذلك جماعة حزب الله، مع دعمه المتواصل في الوقت ذاته للجيش اللبناني باعتباره المؤسسة الداعمة لاستقرار البلاد. وعلى الصعيدين التونسي والمصري، استطاع التكتل الأوروبي إدارة دفة العلاقات المُعقدة مع الجماعات المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين مع موازنة المخاوف بشأن التعددية السياسية مع أولويات مكافحة الإرهاب.
وفيما يتعلق بسوريا، صحيح رفضت بروكسل تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، لكنها حرصت على دعم مبادرات المجتمع المدني والحكم المحلي داخل المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة. فيما تطور موقفها حيال الجماعات الإسلامية داخل صفوف المعارضة السورية، حيث اعتبرت بعضها أطرافًا شرعية في الحوار، فيما استبعدت البعض الآخر بسبب أفكاره المتطرفة. وعلى مدار الأعوام الأخيرة، عكست البيانات الأوروبية الرسمية مخاوف متنامية إزاء دور الميليشيات المسلحة المُزعزع لاستقرار الدول، والحاجة إلى التكريس للحكم الشمولي. على سبيل المثال، شدد تقرير المجلس الأوروبي بشأن سوريا الصادر في عام (2019م) على التزام الاتحاد الأوروبي حيال" عملية انتقال سياسي حقيقي داخل البلاد تستند إلى القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي رقم 2254م”، وجدد دعمه "للمساءلة والعدالة الانتقالية باعتبارهما مكونين أساسيين لسلام مستدام". وفي أعقاب انفجار مرفأ بيروت في لبنان عام 2020م، أكد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في ذلك الوقت جوزيب بوريل على الموقف الأوروبي بشأن ضرورة نزع السلاح عن كافة الجماعات المسلحة الواقعة خارج سيطرة الدولة، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة.
وفي الشأن العراقي، تؤكد الاتصالات المتعلقة بالسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، مثل البلاغ المشترك لعام 2021 م، بشأن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والعراق، على أهمية "تفكيك الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة وإعادة دمج أعضائها في الحياة المدنية أو ضمن الهياكل الأمنية الرسمية الخاضعة لسيطرة الدولة." ومؤخرًا، جدد تقرير تنفيذ البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي 2023م، التأكيد على أن معالجة قضية انتشار الجهات الفاعلة المسلحة غير التابعة للدولة في المناطق المجاورة يظل هدفًا أمنيًا أصيلًا للاتحاد الأوروبي. كما شدد التقرير على أهمية دعم مؤسسات سيادة القانون، وإصلاح قطاع الأمن المدني، والشراكات الإقليمية للمساعدة في نزع سلاح الميليشيات وتفكيكها.
وفي مارس 2024م، صرح جوزيف بوريل خلال جلسة استماع أمام البرلمان الأوروبي بأن " أي مسار نحو السلام المستدام في المنطقة يقتضي أن يشمل العمل على تفكيك الهياكل العسكرية الموازية واستعادة الدولة احتكارها للقوة العسكرية". كما شدد بوريل على ضرورة ربط الدعم الأوروبي بالتزامات واضحة من قبل اللاعبين المحليين بشأن تنفيذ إصلاحات سياسية شاملة. هذه البيانات، وإن كانت تحمل طابعًا دبلوماسيًا، لكنها تعكس رسالة أوروبية راسخة مفادها: أن سيادة الدول، واحتكار القوة العسكرية، والحكم الشمولي هم الركائز الرئيسية للاستقرار طويل الأمد.
- دراسات حالة مُحدثة للدول: الواقع المحلي وأنماط المشاركة الأوروبية
سوريا: ديناميات ما بعد الأسد وآفاق المستقبل
أدى سقوط نظام بشار الأسد في عام 2025 م، إلى إعادة تشكيل جذري للمشهد السياسي للبلاد. فبعد حرب أهلية دامية وانقسامات استمر رحاها لأكثر من عقد من الزمان، استطاعت حكومة جديدة الصعود إلى السلطة بموجب اتفاق انتقالي مدعوم من قبل ائتلاف من اللاعبين الدوليين والإقليميين. التقى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، المنتمي لصفوف المعارضة السورية بدعم خليجي وتركي، مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض في 14 من مايو 2025 م، في قمة شديدة الرمزية تعكس تحولا صوب عودة العلاقات لطبيعتها وإعادة الإعمار. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، يمثل هذا التحول الدراماتيكي آفاقًا جديدة وتحديات محدقة. فمع رحيل الأسد، قد تُعيد بروكسل تقييم سياسة عدم الانخراط السابقة والسعي لإيجاد مسارات جديدة لدعم الاستقرار السياسي، ونزع السلاح وإعادة بناء مؤسسات الدولة. وبإمكان الاتحاد الأوروبي الاضطلاع بدور أكثر مباشرة فيما يلي:
- تسهيل نزع سلاح الميليشيات المُتحالفة مع النظام السابق، وتفكيكها، وإعادة دمجها.
- دعم آليات العدالة الانتقالية لمعالجة الفظائع التي ارتكبت في عهد الأسد.
- الانخراط مع القيادة السورية الجديدة لتعزيز الحكم الشمولي بما يعكس تنوع النسيج العرقي والطائفي لسوريا.
على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، إلا أن الأوضاع السورية لاتزال هشة في ظل استمرار نشاط الجماعات المدعومة من إيران مثل "لواء فاطميون" وبقايا الفصائل الموالية لحزب الله في داخل أجزاء من البلاد. بما يستلزم من الاتحاد الأوروبي ضرورة العمل مع الشركاء في الخليج والأمم المتحدة لضمان عدم تقويض السلام الهش في سوريا على يد الميليشيات المدعومة خارجيًا.
لبنان: من الشلل الحكومي إلى الإصلاح الهش
يستعد لبنان، الذي عانى لفترات طويلة من الشلل الناجم عن الانهيار الاقتصادي ونظام تقاسم السلطة الطائفي، لدخول مرحلة سياسية جديدة. فبرغم من احتفاظ حزب الله بقوته العسكرية، إلا أن قبضته على الحياة السياسية في لبنان قد ضعفت جراء الاحتجاجات الشعبية، والعقوبات الدولية، وتصاعد الانتقادات الداخلية. كما أثمرت الجهود الدبلوماسية الأخيرة، بزعامة خليجية، عن حوار وطني مبدئي مع اضطلاع كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا بأدوار رئيسية في جهود الوساطة. فيما أبدت بعض قيادات حزب الله استعدادًا للتفاوض بشأن أطر واضحة لنزع السلاح مقابل ضمانات إقليمية.
تُمهّد هذه البداية المُبشرة الطريق لدور أوروبي فاعل في:
- تعزيز الدعم للقوات المسلحة اللبنانية باعتبارها الجهة الأمنية الشرعية الوحيدة.
- دعم مبادرات الحوار الوطني وإصلاحات منظومة الانتخابات.
- توفير مبادرات اقتصادية مرتبطة بنقاط مرجعية قابلة للقياس فيما يتعلق بنزع السلاح والإدارة.
مع ذلك، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يتلمس خطواته بحذر خشية أن يؤدي أي تحرك عشوائي غير مدروس لإثارة ردود فعل عكسية لاسيما وأن إيران لا تزال تنعم بنفوذ كبير داخل لبنان. وهو ما يقتضي من بروكسل انتهاج استراتيجية تدريجية ومشروطة لمشاركته- من خلال العمل تحت مظلة المحافل متعددة الأطراف والتنسيق مع الجهات الفاعلة الخليجية.
العراق: الانقسام السياسي ومستقبل قوات الحشد الشعبي
يواصل العراق جهوده لاجتياز المرحلة الانتقالية الحساسة التي تمر بها البلاد بعد سقوط تنظيم داعش. وفي حين شهدت البلاد إصلاحات دستورية وانتخابات برلمانية، لكنها لا تزال تعاني من انقسام سياسي واحتفاظ الميليشيات المسلحة بنفوُذها. ورغم أن قوات الحشد الشعبي كانت جزءًا من الجهاز الأمني العراقي، إلا أنها منقسمة الآن ما بين الفصائل الموالية لإيران والوحدات الوطنية الموالية للدولة. وقد ركزت الجهود الأوروبية داخل العراق على بناء القدرات المؤسسية وتعزيز الأمن المدني من خلال بعثة الاتحاد الأوروبي الاستشارية في العراق. وشهد عام 2025م، عملية اصطفاف كبرى حيث وافقت بعض الألوية الوطنية داخل قوات الحشد الشعبي إما على حل نفسها أو الاندماج بشكل كامل داخل الجيش العراقي بموجب مبادرة مدعومة أمريكيًا، في حين أبدت العناصر المدعومة من قبل إيران مقاومة. وهو ما يتيح للاتحاد الأوروبي فُرصًا لما يلي:
- دعم برامج التعبئة وإعادة الدمج للمقاتلين السابقين
- توسيع نطاق بعثة الاتحاد الأوروبي الاستشارية في العراق لتشمل المساعدة في مجالات إعادة الإعمار، و"نزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج (DDR)" ، والتعاون المدني والعسكري.
- المساعدة في مراقبة الامتثال لاتفاقيَات نزع السلاح من خلال المراقبين المدعومين من الاتحاد الأوروبي.
ونظرًا لاستمرار التهديد الذي يمثله النفوذ الإيراني على استقرار العراق، يتوجب على الاتحاد الأوروبي تنسيق جهوده مع الولايات المتحدة والشركاء الإقليميين، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الحفاظ على سيادة العراق وديناميكياته السياسية الداخلية.
اليمن: وقف إطلاق النار- في الوقت الحالي
لا يزال اليمن يمثل أحد أكثر النزاعات الإقليمية تعقيدًا. ففي عام 2024م، أثمرت الجهود الدبلوماسية العُمانية والأممية عن اتفاق هش لوقف إطلاق النار بين جماعة الحوثي والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. ورغم أن هذا الاتفاق أعاد هدوءًا نسبيًا للبلاد، إلا أن الاشتباكات المتفرقة والتحديات الإنسانية ما زالت قائمة.
وفي سياق هذا المشهد، يحتفظ المجلس الانتقالي الجنوبي بسلطته الذاتية في الجنوب، بينما تستمر الميليشيات القبلية والإسلامية في ممارسة نفوذها ضمن عدد من المناطق الحيوية. وقد تركزت جهود الاتحاد الأوروبي على تقديم المساعدات الإنسانية والدعم الدبلوماسي لمسار السلام الذي ترعاه الأمم المتحدة.
وفي خطوة مهمة لعام 2025م، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة شاملة لإعادة الإعمار، ونزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج في مدينتي عدن وتعز، وذلك بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وفي سبيل دعم السلام في البلاد ينبغي للاتحاد الأوروبي العمل على:
- زيادة الدعم للحكم المحلي ومنصات بناء السلام الشامل.
- توفير الخبرات التقنية على صعيد ضبط انتشار الأسلحة ونزع السلاح على نطاق مجتمعي.
- إشراك دول الخليج في برامج المساعدات المنسقة والتنمية المؤسسية.
يُعد نجاح هذه الجهود مرهونًا باستمرارية اتفاق وقف إطلاق النار واستعداد اللاعبين المحليين للانتقال إلى تسوية سياسية.
ليبيا: الانتقال من التناحر بين الميليشيات إلى إصلاح القطاع الأمني
دخلت ليبيا مرحلة مبدئية من الاستقرار في أعقاب الانتخابات التي جرت في عام 2024م، وأتت بحكومة وحدة وطنية تحظى بدعم الجهات الغربية والشرقية. وبالرغم من استمرار النزاع على السلطة، اتفقت التحالفات المسلحة الرئيسية - الجيش الوطني الليبي والميليشيات الغربية المتحالفة مع حكومة الوحدة الوطنية - على خارطة طريق تدريجية لنزع السلاح تحت إشراف الأمم المتحدة. تُتيح هذه الخارطة آفاقًا مهمة للاتحاد الأوروبي من أجل:
- القيام بدور رئيسي في دعم مبادرة "عملية برلين" حول ليبيا، وهي مبادرة دبلوماسية أطلقت عام 2019م، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة لاستقطاب الفصائل الليبية والجهات الفاعلة الدولية من أجل الموافقة على خارطة طريق للسلام. تمثل "عملية برلين "منتدى متعدد الأطراف يتوافق بشكل وثيق مع التزام الاتحاد الأوروبي بنهج الدبلوماسية الشاملة، وسيادة القانون، ونزع السلاح عن الميليشيات المسلحة. وتحت مظلة هذه العملية، ساهمت بروكسل في تعزيز الحوار بين الحكومات الليبية المتنازعة، والدفع صوب اتفاق لوقف إطلاق النار، والتشجيع على اتخاذ خطوات لإعادة توحيد مؤسسات الدولة.
- يواصل الاتحاد الأوروبي التأكيد على التزامه بعملية برلين كإطار رئيسي لتحقيق السلام والاستقرار داخل ليبيا. وفي بيان صدر عام 2024م، شدد الاتحاد على أن "عملية برلين"، تحت رعاية الأمم المتحدة، تظل المسار الوحيد القابل للتطبيق لإعادة إحياء العملية السياسية داخل ليبيا. ينعكس هذا الالتزام الأوروبي عبر الدعم المتواصل للمبادرات التي تهدف لتعزيز الحكم الشمولي ونزع السلاح عن الجماعات المسلحة.
- تنطوي مشاركة الاتحاد الأوروبي في "عملية برلين" على استضافة الاجتماعات الرئيسية وورش العمل المنعقدة حول ليبيا. وفي ديسمبر 2024م، استضافت البعثة الأوروبية في ليبيا اجتماع رؤساء مجموعة العمل الاقتصادي لعملية برلين، بمن فيهم ممثلون عن كل من مصر، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة، لمناقشة الاستقرار الاقتصادي ووضع ميزانية موحدة لليبيا. تُبرز هذه الجهود دور الاتحاد الأوروبي في تسهيل الحوار بين الأطراف الليبية المعنية والشركاء الدوليين.
- وفي نوفمبر 2024م، تبنت المفوضية الأوروبية آلية خاصة لتمويل المبادرات الموجهة لدعم النظام المالي العام في ليبيا، ورفع مستوى الاستثمارات في التحولات الرقمية والخضراء، بالإضافة إلى دعم أنظمة العدالة وإنفاذ سلطة القانون. تتماشى هذه التدابير مع الاستراتيجية الأوروبية الأوسع من أجل إعلاء الاستقرار والتنمية داخل ليبيا من خلال إطار "عملية برلين"
- ذلك بالإضافة إلى التمويل الأوروبي لبرامج الحد من التسلح، والعدالة الانتقالية، وبناء المؤسسات. فيما تساهم بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية (EUBAM) في مساعدة السلطات الليبية في إدارة الحدود ومكافحة الجريمة المنظمة. مع ذلك، لا يزال نزع السلاح عن الميليشيات وسط النزاعات المستمرة والتحالفات المتغيرة بين الجماعات المسلحة هدفاً بعيد المنال. ورغم هذه المعوقات، تعد "عملية برلين" بمثابة نموذج يحتذى للمشاركة الأوروبية - مٌستفيدة من التنسيق متعدد الأطراف والشرعية الدولية لمعالجة الديناميات المعقدة في مرحلة ما بعد الصراع.
مع ذلك، لايزال طريق ليبيا نحو الاستقرار محفوفًا بالمخاطر الممثلة في ظل استمرار وجود المرتزقة الأجانب، والولاءات القبلية، والفوارق الاقتصادية. من ثم، يجب أن تظل الجهود الأوروبية متوائمة ومُتجاوبة مع التحولات الجارية على الأرض.
- الدور المستحدث لحلف الناتو والشراكات الأمنية
انهيار نظام الأسد وتشكيل حكومة جديدة في سوريا أدى إلى تغيير كبير في الحسابات الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي" الناتو" والاتحاد الأوروبي داخل المنطقة. وأصبح للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمان، من الممكن التوصل لنهج أوروبي أطلسي مُنسق يُعيد الاستقرار لسوريا. وقد بدأ حلف الناتو بالفعل في إرسال بعثات استكشافية لدعم إصلاحات القطاع الأمني السوري تحت مظلة الجهود الخليجية لإعادة الاستقرار لسوريا. وأصبح من الممكن أن تلعب البعثات المشتركة للاتحاد الأوروبي والناتو دورًا في:
- المساعدة في حل الميليشيات المحلية ودمجها في القوات الوطنية للجيش والشرطة.
- نشر فرق تدريب لضمان الرقابة المدنية والاحترافية داخل المؤسسات السورية الناشئة.
- توفير الدعم اللوجستي والاستراتيجي لمباَدرات إدارة الحدود لمنع عودة ظهور الجماعات المتطرفة.
وفي لبنان، بإمكان حلف الناتو توسيع نطاق أدواره الاستشارية وتعاونه الاستخباراتي مع القوات المسلحة اللبنانية، وبالأخص في تأمين الحدود الجنوبية للبلاد والمجال البحري. كذلك فإن العمل على إجراء مناورات مشتركة واتباع تدابير بناء الثقة بين الناتو والجهات الفاعلة الإقليمية-بما في ذلك الأردن، ومصر، والمملكة العربية السعودية- من شأنه أن يعزز البنية الأمنية اللازمة لضمان استمرار نزع السلاح. وهنا تكمن أهمية تنسيق الجهود بين الجهات الفاعلة، وضرورة ضمان توافق مشاركة الناتو مع الأهداف السياسية المُمثلة في: نزع السلاح، وإعادة الدمج، والحكم المستدام. حيث أن الاعتماد على الأدوات العسكرية وحدها لن يحقق سلامًا مستدامًا، حتى وإن ساعد في إفساح مجال للحلول السياسية.
- جماعات الإسلام السياسي داخل أوروبا: ما بين الرؤى والانتقادات
انتقدت بعض الحكومات الإقليمية الاتحاد الأوروبي لإيواء نشطاء من تيار الإسلام السياسي تحت ستار اللجوء أو حماية حقوق الإنسان. وقد رسّخت جماعات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، على وجه الخصوص، وجودها داخل عدة دول أوروبية، مما أثار مخاوف بشأن نفوُذها الأيديولوجي. دافع الاتحاد الأوروبي عن سياساته على أساس مبادئ حرية تكوين الجمعيات وعدم التمييز، فضلًا عن سلامة الإجراءات القانونية لهذه الجماعات. وهو ما لا يمنع أيضًا تطبيقه استراتيجيات تهدف لمكافحة التطرف، ورصد الرموز المؤثرة التي يُحتمل انتهاجها للعُنف. في حين لا يزال النقاش حول الموازنة بين الحريات المدنية والضرورات الأمنية نقاشًا حساسًا ومستمرًا.
- 7. نحو استراتيجية شاملة: نزع السلاح، الحوار، والاندماج
كي تلبي الاستراتيجية الأوروبية أهدافها، لابد وأن تجمع بين الحوار الأمني، والسياسي، والمبادرات الاقتصادية. فلا يمكن فرض نزع السلاح دون عرض بدائل قابلة للتطبيق للمقاتلين السابقين ومعالجة الأسباب المتجذرة مثل التهميش الطائفي، والحرمان الاقتصادي، والتدخل الأجنبي. كذلك ينبغي أن يتم تنسيق الجهود بين الجهات المانحة والمنصات متعددة الأطراف بشأن العدالة الانتقالية، والحكم الشمولي، وإصلاح القطاع الأمني. وهنا يتسنى للاتحاد الأوروبي القيام بدور فريد في الجمع بين مجموعات أصحاب المصالح المختلفة ودعم الحلول المبتكرة محليًا.
- الختام: دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق استقرار طويل الأمد
ينعم الاتحاد الأوروبي بمكانة حيوية كداعم للسلام، والحوار، والتنمية رغم محدودية قواه الصلبة. وفي الوقت الذي تفرض قضية نزع السلاح عن الميليشيات المسلحة ومخاطبة حركات الإسلام السياسي داخل المنطقة تحديات معقدة، فإن تركيز الاتحاد الأوروبي على التعددية، وبناء الدولة، وحقوق الإنسان يمنحه دورًا أساسيًا في دعم المرَاحل الانتقالية بعيدًا عن دوامة العنف المقيتة. ومن خلال الشراكة مع حلف الناتو والجهات الفاعلة الإقليمية، ينبغي على الاتحاد الأوروبي مواصلة الاستثمار في منع الصراعات، وتسهيل سبل الحوار، وتمكين المؤسسات المدنية.
تعد جهود الاتحاد الأوروبي لنزع السلاح عن الميليشيات ومخاطبة تيار الإسلام السياسي داخل الشرق الأوسط متجذرة في رؤيته الراسخة بشأن الحكم الشمولي، وشرعية الدولة، والاستقرار الإقليمي. وفي حين أن التقدم المحرز في هذا الصدد متفاوتًا وبطيء الخطى، عمل الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد على مواءمة تصريحاته وأفعاله بما يدعم التحولات التي تقضي على الهياكل العسكرية الموازية وتعيد احتكار القوة العسكرية لمؤسسات الدولة.
وفي بيانها الأخير الصادر في مايو 2025م، شددت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جالا كالاس على ضرورة أن تتجاوز عمليات نزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج دلالتها الرمزية لتُفضي بشكل ملموس إلى سلام مستدام ومؤسسات شاملة. وأضافت أن الاتحاد الأوروبي سيعمل مع حلف الناتو، والأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية لضمان "ألا يتم مجرد إعادة تدوير للميليشيات لتتمكن من الظهور بصور مختلفة في الأزمات المستقبلية، بل أن تخضع لتحول حقيقي عبر الاندماج في الحياة المدنية وإتاحة الفرص الاقتصادية". ويعكس هذا الالتزام، نهجًا أوروبيًا متطورًا- يوازن بين القيم والبراغماتية، ويتفاعل بشكل عميق مع الحقائق على الأرض مع عدم المساس بالقيم الأوروبية الأساسية.
إنَّ دروب السلام في المنطقة وعرة وشائكة، ولكن بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يحمل شعلة لإرشاد المجتمعات في مراحل ما بعد الصراع للطريق صوب الحكم الشمولي والمستدام.