توخينا، من أجل الحصول على فهم أفضل للأوضاع الحالية والمستقبلية المحتملة، في هذا المقال تكثيف النظر في بعض الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يمر بها السودان حاليًا، بدلًا من تقديم تحقيق شامل في هذه القضايا. فقد وصف السودان كثيرًا بأنه "دولة فاشلة محتملة"، خاصة في عملية "الطلاق" الأولى مع مصر، وما نُسِبَ فيه من قول لصلاح سالم، مبعوث الرئيس جمال عبد الناصر، من أن السودان "ضائع، ضائع"، واتجهت القاهرة إلى الوحدة مع دمشق، وتكررت مع "الانفصال" مع جنوب السودان. لذلك، فإن القصد هنا هو ببساطة دعوة القارئ لمتابعة التاريخ الماضي والحديث؛ كما هو موضح في البيانات المتاحة، في الكثير من المراجع السياسية، التي ألفها مفكرون سودانيون، ومحاولة التوصل إلى سيناريوهات مستقبلية ممكنة، أو محتملة، على الأقل من خلال فتح كوة صغيرة في قتامة الوضع الراهن.
ويقر هذا المقال بأن هناك حاجة إلى نهج أكثر دينامية تجاه الماضي المنقسم للسودان، إذ يقتصر التصور العام لحقبة ما قبل الاستقلال على حقيقة أن التوترات بين المجموعات العرقية المختلفة ظلت كامنة بسبب الضغوط الخارجية للقوى الاستعمارية، لكن الاحتياجات الاقتصادية والسياسية للدولة الاستعمارية تزيد من تعميق هذه التوترات بينما بذلت محاولات لاستيعابها. ومن خلال تقسيم الكيانات السياسية داخل الحدود الاستعمارية وتحصينها وتسليحها، تم شق الطريق إلى مكاسب اقتصادية من خلال نهب المناطق الخاضعة لسلطة مجموعة عرقية مختلفة وإهدائها لغيرها. وزاد التفاعل العنيف من خلال التبخر السريع لحوافز التسامح والتعاون بعد الغزو البريطاني، الذي أسهم في حرب الجنوب 1955م، قبيل مغادرته في 1956م، وإلى جانب التأكيد على الاختلاط العرقي السياسي المتقلب والتوترات، التي أثارها، برزت هذه جهود مختلفة، بذلتها مجتمعات محلية عدة من أجل تقرير المصير تحت التوجيه القبلي، أو الجهوي، أبرزها جنوب السودان. وكانت الاستراتيجية الاستعمارية المتمثلة في فرق تسد تعني خسارة الكرة الاستعمارية لمعظم المشاركات الأخرى في السودان، لكن بيئة تحقيق تقرير المصير شكلت أيضًا الهويات الجماعية المستقبلية، التي استلزمت بدورها جولات جديدة من الصراعات. ومن خلال تحليل التحالفات والأعمال العدائية بين مختلف الجماعات، التي كانت المؤيدة للاستقلال، يمكن تتبع مسارات مشتركة تجلب نظرة ثاقبة لطبيعة التحالفات والمواجهات المستمرة. فقد ترك عدم القدرة على صياغة هوية وطنية موحدة خلال الفترة الاستعمارية إرثًا لم يتم التغلب عليه أبدًا. وقد يتسنى من خلال عدسات التحليل التاريخي فحص الأسس الجوهرية للوضع الحالي للعلاقات العرقية السياسية في السودان. وعملية المصالحة التأسيسية ضرورية لكل مجتمع في مرحلة ما بعد الصراع، حيث سيقال إنها مناسبة للسودان. ولا يقتصر الأمر على الضرورة فحسب، بل أيضًا على الخطوط الزمنية العريضة، التي لا مفر منها من خلال المدى الواسع للممارسات الاستعمارية المثيرة للانقسام والممارسات المضادة على مدى عقود من الوجود الاستعماري. ومن خلال تصوير اللوحة العريضة للعلاقات العرقية -السياسية بين مختلف المجموعات العرقية، وهو تمثيل يمثل بحكم تعريفه تبسيطًا مفرطًا وتخفيضًا كبيرًا من التعقيد، ينبغي أن يتم التأكيد على أهمية أخذ الماضي في الاعتبار. وعلى مستوى أكثر عمقًا، وأن يحاول هذا التصوير الكشف عن الديناميات التاريخية الأساسية، التي لا تزال تحدد وتؤثر على السياسة اليومية.
وننصح القارئ بأن الأزمات، التي تمت ملاحظتها مرتبطة ببعضها البعض وأن الانقسامات بينها ستعيق فهم إلحاح هذا الوضع الراهن في السودان، لأن القيم الاجتماعية والاقتصادية في البلاد على المحك. فعلى سبيل المثال، أدى النزوح إلى تفاقم الفقر في حين أن البطالة المرتفعة جدًا والعمالة الناقصة هي قضايا سياسية في حد ذاتها. وتفاقم سوء التغذية في مرحلة الطفولة في جميع المخيمات والمستوطنات تقريبًا للنازحين في تزايد؛ علمًا بأن تاريخ السودان هو تاريخ من الأمراض السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية. وسوف يتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من المساعي السياسية "الحميدة" للخروج من الأزمة الحالية. لكن يجب على "المجربين" من السياسيين؛ قُدامى ومحدثين، أن يكرسوا أنفسهم للحد من نوع الألم، الذي بدا أن السودان يعاني منه دائمًا بسبب أخطائهم، حتى يمكنوا البلد من أن يخرج من معاناته التاريخية على الرغم من صعوبة التغلب عليها.
السياق التاريخي:
لقد غذت نهاية خمسين عامًا من الحرب في جنوب السودان آمالًا كبيرة في أن تتاح للبلاد فرصة للتعافي والتنمية وتحقيق درجة معينة من الاستقرار. وخلال تلك الفترة، كشف الصراع عن عدد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي طال أمدها، والتي قد تؤثر كثيرًا على تنمية ما بعد الحرب. وبما أن غرض هذا المقال تحليل سيناريوهات محتملة، أو ممكنة، ينصب التركيز على الموضوعات والعوامل العريضة، التي ستشكل إنشاء ونجاح عمليات ومؤسسات بناء الدولة والمصالحة والسلام في السودان ومناطقه، لأنه عمليًا لا يمكن التنبؤ بالمستقبل بشكل قاطع في ظل تغير الحقائق الموضوعية باستمرار. وبالتالي، ينبغي مواصلة استكشاف القضايا المثارة، مع النظر في الآثار المترتبة على السياسات بالنسبة للجهات الفاعلة داخل المجتمع الإقليمي والدولي، وكذلك بالنسبة لأصحاب المصلحة السودانيين، الذين تعالج بالنسبة لهم عددًا من المعضلات المهيمنة والعرقية. ومن بعد، تُقدم بعض التأملات حول العلاقة المتناقضة بين بناء الدولة والشرعية كما تطورت في السودان وجنوب السودان خلال العقد الماضي، وتقديم مقترحات حول كيفية إعادة بناء المستقبل لتمهيد الطريق لتعزيز متبادل بين سلطة الدولة والموافقة العامة. ففي إفريقيا كلها، كانت مشاركة القوى الاجتماعية ذات القاعدة العريضة في النضال التحرري شائعة في الستينيات والسبعينيات. وكان لطبيعة الدولة، التي تأسست بعد التحرير والطريقة، التي أدارت بها الدولة المرحلة الانتقالية تأثير عميق على طبيعة مجتمع ما بعد الاستقلال. وقد يكون مثال إريتريا فريدًا من نوعه، ولكن بعض المشاكل، التي كان عليها مواجهتها في حقبة ما بعد الاستقلال واجهها عدد من البلدان الإفريقية الأخرى.
ويمكن فهم المشهد السياسي والاجتماعي للسودان في أعقاب تعقيدات السلطة الواضحة بين المجلس العسكري الانتقالي في 3 يونيو 2019م، وجزء من اللاعبين الرئيسيين وأصحاب المصلحة. وقد لا يكون رسم الخطوط العريضة لهؤلاء الفاعلين شاملًا، ولكنه ينظر إليه على أنه تمثيل معقول لإمكانيات الحكم ومعظم صراعات السلطة السائدة. ويمكن تقسيم هؤلاء الفاعلين تقريبًا إلى هيئات حكومية وأحزاب معارضة وجماعات مسلحة. وفي تفاعلهم، ومنافساتهم، ولكن بعض التعاون بينهم كان أيضًا واضحًا. ففي المفاوضات العديدة واتفاقيات السلام في العقود الماضية، التي كانت أحيانًا عبثية، وضعت في منظورها الصحيح التأثير الموحد التام لصراعات السلطة هذه على ظاهرة السرد الكلي للأزمة السودانية. وتؤثر قرارات القيادة بالتأكيد على عمليات السلام، ولكنها تتخذ أيضًا فيما يتعلق بالتطورات، التي لا يمكن السيطرة عليها بشكل كامل، مثل عندما لا تكون مسؤولية قادة المتمردين كافية لتثبيط استمرار الحرب من قبل مرؤوسيهم. وفي حالات أخرى، ما يسمى بالمركز المجزأ قد يعني أن هناك بالكاد اتفاق على وقف، أو استمرار القتال، مما يؤدي إلى حرب بشكل افتراضي وليس عن قصد. لذلك، فإن ديناميات المنافسة والتعاون والتوافق مع التدمير المحسوب للدولة ليست بأي حال من الأحوال مجرد خطأ في التفسير، أو سوء فهم.
بالنسبة لبلد تمزقه حروب متجذرة بشكل أساس في قضايا التهميش التاريخي وتوزيع الموارد بدلًا من الانقسامات الأيديولوجية، فإن النزاعات بين الجهات الفاعلة السياسية والعسكرية الرئيسة المشاركة في الصراع لها أهمية أكبر مما هي عليه في الحالة العامة. وزاد عدد أحزاب وحركات المعارضة المسلحة في السودان بشكل كبير منذ منتصف الثمانينيات، لا سيما تلك، التي أضيفت إلى المناطق المتنازع عليها بالفعل في الشرق والغرب والجنوب. لذلك، فإن فهم الدور المتكامل والمتسق للمنظمات الدولية والحكومات الأجنبية؛ تدخلًا وتمويلًا لهذا التنافس والصراع، مهم ضمنيًا، ويتبدى صريحًا في هذا الاضطراب. ويُشير الوصف العام للسودان، الذي مزقته الحرب إلى حالة واحدة من وجود مضطرب، ومع ذلك فإن تفاعل الصراعات المتشابكة والحروب والتمردات والجرائم والأنظمة، الفيدرالية والإقليمية على حد سواء، يزيد من كثافة المؤامرات الخارجية وتعقدها بحيث يمكن أن تقوض أي أمل في الوحدة والحكم المستقر والعادل.
التحديات الحالية:
لقد ترك تاريخ الانقسامات بين السياسيين بصماته على السودان اليوم، فأصبحت البلاد واحدة من أكبر منتجي الأزمات في العالم، وانقسمت مرتين على أسس واضحة، كما أسلفنا الإشارة إليه عاليه. وترى معظم التقييمات أن أوضاع السودان منزعجة للغاية ولا تزال البلاد تواجه تحديات هائلة، حتى أن الكثير منها يهدد بقاءه على المدى القصير. ويواجه الناس تحديات اقتصادية خطيرة، في حين أن الصراع يهدد دارفور مرة أخرى. والسودان في قلب صراعات سياسية حول توجه الدولة والمجتمع بعد عقود من حروب الأطراف. وتتزايد خيبة الأمل بشكل عام بسرعة بين القطاعات المتصارعة في المجتمع السوداني، مع فك ارتباط غريب، خاصة بين الجزء الخاسر من النخبة الحاكمة، أو التي ظلت تتطلع باستمرار للوصول إلى سدة الحكم. ومع الأزمة الاقتصادية، قد يؤدي التضخم المفرط بالفعل، وانهيار العملة، والمشاكل البنيوية مثل البطالة والتعويض في التجارة إلى اضطرابات شعبية، وتقويض السلطة السياسية من جديد، وقد تكون عندها الفرصة مواتية لمغامرة انقلاب من قبل ضباط وسياسيين ساخطين. وحتى إذا تم تجنب ذلك، فإن الحالة الاجتماعية والسياسية تظل هشة بنفس القدر بالنظر إلى الزيادة المتوقعة في أسعار المواد الغذائية. ويشعر الناس في جميع أنحاء البلاد بالإحباط، وسيوجهون إحباطهم جزئيًا نحو المجلس السيادي الحاكم والنخبة السياسية، التي يعتقدون أنها تسعى فقط إلى تحقيق مصالحها الخاصة، مع تحالف طائفي وقبلي متميز في كل من العاصمة وفي بعض المناطق، غير أن التأييد لها آخذ في التآكل، وهي تفقد باضطراد الدعم حتى داخل دوائرها الخاصة. إذ أن مجرد وجودها السياسي على قمة السلطة يولد المشاكل لحكومات تحترق بالمصالح والتدخلات الخارجية. ويُنظر إلى هذا على نطاق واسع على أنه غياب استراتيجية شاملة لصالح نخبة سودانية مقيدة في منطقها ومناطقها بسبب هذه المصالح الضيقة. وبسبب الضعف المتجذر في هذا الرضا عن النفس المخيب للآمال، يتسم السودان في كثير من الأحيان بالاضطرابات المدنية وأعمال العنف السياسي، التي يرتكبها المتمردون الساخطون والجماعات المنشقة وحتى المواطنون المتضررون. وقد انخفضت آفاق الحياة لمعظم السودانيين إلى ما دون النصف بسبب انفصال الجنوب. والسودان مهدد اليوم بمستويات لا تطاق من عدم المساواة في الدخل، داخليًا وخارجيًا، مع آثار جذرية يمكن القول إنها تظهر بالفعل من خلال الإفقار البطيء لأنماط الحياة السودانية. وتحدث المواجهات الاجتماعية الآن في المدن حيث تستمر التركيبة السكانية في الانقلاب ضد النخبة الحاكمة؛ إذ يعيش جزء كبير من سكان الخرطوم حاليًا في فقر مدقع مشردين خارج منازلهم، مع حالة من عدم الاستقرار السياسي. ففي ظل فراغ السلطة، الذي نشأ بعد الإقصاء الذاتي للجماعة السياسية "قوى الحرية والتغيير"، لم يواجه النظام قط الكثير من الانتقادات الداخلية والخارجية، بسبب خيبة الأمل من حلفاء الأمس. ولكن تَحَسَّب الناس كثيرًا لتداعيات رد الفعل العنيف، الذي بدأ العمل له في التزايد من قِبَل قوات الدعم السريع، وتُرجِم في انقلاب 15 أبريل 2023م، الذي أحاله فشل التنفيذ إلى حرب شاملة على البلاد والعباد. وإجمالًا، فإن الشعور بالأزمة هو السائد، والتطورات القليلة المحتملة من الآن فصاعدًا غير كافية، في حين أن التنبؤ باستدامة الوضع الحالي أمر يبدو مستحيلًا نظرًا للخيارات والمواقف والقرارات، التي لا تزال متأرجحة، إن لم نقل متناقضة. وربما يكون هذا أحد أسباب الشعور الأكثر عمومية بالتغيير، الذي يكتنف القدرة على التوقع، ولكنه أيضًا مبعث للتوتر، في سياق التخيل بأن اتفاقية سلام ذاتية التنظيم، أو استمرار ملاحقة التمرد وكسر قوته الصلبة، قد يحمل معه بذور هذا التغيير، والذي سيحل المعضلة الحالية ويعالجها بخطوات إيجابية أكبر بكثير مما تقول به حسابات الراهن.
تعدد المسارات:
هناك العديد من المسارات، التي يمكن أن تسلكها الحرب الأهلية السودانية على مستقبلها على المدى القصير والمتوسط والطويل، ولكن مع اختلاف القيادة السياسية والمشاركة المجتمعية والدعم الدولي، قد يتحقق سيناريو أمثل لوقف الحرب الدائرة الآن، بالشكل الذي لم يتحقق به في أي من اتفاقيات السلام السابقة. فقد يرتكز السلام الحقيقي على أسس مفاهيمية وعملية واسعة بكثير مما هو عليه في السيناريوهات السابقة، لا سيما بين تلك المجموعات، التي كانت تسيطر على السلطة ومناويئها. ولا يوجد شيء لا مفر منه فيما يمكن رسمه من سيناريو؛ حتى مع النوايا الحسنة، قد يكون من السهل فيه تمكين القاعدة الشعبية وبناء القدرات. وإذا واجهت هذا السيناريو أقدار الاختيار، فإن السلام، الذي يمكن تحقيقه يستصحب بالضرورة خيار المصالحة والإصلاح السياسي والاقتصادي.
وذلك لأن هناك خيار واسع آخر يتمثل في النظر إلى ما هو أبعد من مجرد إنهاء الحرب لمعالجة أعمق سبب جذري لها؛ وهو المظالم السياسية والاقتصادية، التي أضرت لفترة طويلة بجزء كبير من البلاد. وكما هو الحال الآن، قد يكون من غير المرجح أن تشكل مثل هذه القضية الكثير من أجندة الموقف خلال الفترة الانتقالية المقبلة، وحتى لو تم تناولها في العديد من الحوارات الجارية في ظل الحكومة، التي تفتقر إلى الالتزام الحقيقي بتقاسم السلطة وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها، ولديها موقف صارم لتحقيق التغيير من خلال الحرب لا التفاوض. لذلك، إذا ارتفعت مثل هذه المظالم دون معالجة، فقد تنشأ حركة التمرد من الداخل، وسيكون البعض الآخر مستعدًا للتحريض، وسيظل احتمال السلام الدائم في السودان بعيد المنال كما كان من أي وقت مضى. ومع ذلك، يمكن للمعارضين لهذا الطرح أن يتصوروا سيناريو تُقَدِّرُ فيه مجموعة أوسع من أصحاب المصلحة المنفعة المتبادلة لمعالجة هذا القلق. وقد يكون الدعم الدولي للتسوية السلمية مشروطًا بقيام حكومة السودان بتنفيذ حكم توزيع الثروة وتقاسم السلطة في البلاد، كما حدث في اتفاقية جنوب السودان فعلًا. وهذا بدوره يمكن أن يكون؛ في بعض جوانبه، بمثابة حافز للحكم التشاركي المفيد على المستوى المحلي، مما يوفر لعامة الناس مصلحة في السلام الدائم.
وعلى خلفية هذا العنف الواسع النطاق والفوضى السياسية، يجب الآن التفكير في التنمية المستقبلية المحتملة للسودان. ففي السودان المنقسم بشدة، حيث كان الكثير من العنف منذ الاستقلال مدفوعًا بمظالم تاريخية، فإن التئام الجروح، أو على الأقل التستر عليها، هو الشرط الأكثر وضوحًا لمستقبل سلمي. وبشكل عام، ينطوي هذا الشفاء على مراهم سياسية تتناول شروط الإدماج في الدولة. ولكن على مستوى مادي أكثر، قد تنطوي المراهم السياسية أيضًا على التنمية وتوزيع السلطة السياسية. ويبدو هذا مهمًا بشكل خاص بين أماكن كافية، مثل السودان، حيث تمتلك الحكومة، حتى في مرحلة ما بعد الثورة، تفوق عسكري ساحق، ولكن يبقى السلام العادل والدائم هو التحدي، الذي ينتظر مستقبل السودان المحتمل. إذ إن إحدى النتائج المحتملة في السودان بعد الحرب هي الانتقال السلمي للسلطة والوحدة والمصالحة. ولا يمكن اعتبار هذا السيناريو أمرًا مفروغًا منه في ضوء الصراعات السابقة والمستمرة، سواء في السودان، أو في أماكن أخرى. والشروط المسبقة هي الحكم الشامل، وانتخابات حرة ونزيهة مع مراقبة وصحافة غير منحازة، وجدار حماية قوي للمساءلة، وحوار وطني حقيقي يقوده المواطنون ويشمل كل التنوع السوداني.
السيناريوهات المستقبلية:
لا يمثل أي من هذه السيناريوهات المستقبلية تنبؤا، أو توقعًا، غير أن جميعها قد تساعد في فهم جذور النتائج المحتملة والتفكير في التدخلات الاستراتيجية الممكنة. إن جهودنا في علم استشراف المستقبل مستنيرة، التي ظهرت من فحص الديناميات والسلطات والمحركات الاجتماعية والسياسية الحالية للسودان. ومع ذلك، لا يزال مستقبل السودان غير مؤكد لنا، حيث إن مجموع أجزاء هذه الأمة هو لغز من نواح كثيرة. وهذا الظرف الحرج، الذي تمر به البلاد يستدعي التخطيط النشط للمستقبل وإبرام ميثاق تقدير للسودان بين أصحاب المصلحة من المواطنين. فالمصالحة والاستقرار؛ مع وجود الأسوأ وراءهم من خيبات السياسة والسياسيين، سرعان ما يكتشف قادة السودان أن رسم خط تحت التجربة المؤلمة لعام 2023م، أمر ممكن بالفعل، لكن فشله محتمل كذلك. وبعد قرابة العامين من اندلاع الحرب، تم تقليل العنف الكاسح، الذي بدا أنه مصير السودان إلى الحد الأدنى، نتيجة لانتصارات الجيش الأخيرة. وبالنظر إلى أن معظم أصحاب المصلحة السياسيين في السودان ومن هم حولهم واجهوا الهاوية المحتملة للحرب الأهلية، فقد اكتسب جزء كبير منهم وخذ الضمير، أو هكذا يأمل الناس، وأن تكون الحنكة السياسية قد أيقظتهم للانخراط في التفكير على المدى الطويل. والمثير للدهشة أن الإسلاميين، الذين سجن الكثير منهم منذ عام 2019م، فصاعدًا، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى حزب المؤتمر الوطني، ليس من المرجح أن يلعبوا دورًا رئيسًا في تطوير هذا التحالف الجديد فحسب، بل كانوا القوة الدافعة لعملية قلب موازين المعركة العسكرية إلى جانب الجيش.
ويمكن، وفقًا لما تقدم، رسم مجموعة متنوعة من السيناريوهات المستقبلية الممكنة والواقعية، والأحداث الطارئة، التي تحدد مجموعة من العقود الآجلة المحتملة للبلاد، والتي تُوفر خلفية لدراسة ما يعتبر سيناريوهات مستقبلية محتملة للسودان. فقد أثيرت العديد من القضايا حول أسباب ومعاني الحرب، وحقوق الإنسان والإغاثة في حالات الكوارث، والتمثيل الإعلامي، والجغرافيا السياسية، والمشاركة، وغيرها الكثير. بالطبع لقد تغير الكثير في هذه الأيام المظلمة، لأن التحولات الجوهرية في الحقائق السياسية الأوسع تأثيرًا قد باتت موضع تساؤل وشكوك عميقة. لقد تغير السودان نفسه كذلك، وإن كان في الغالب نحو الأسوأ، مع الأزمات الأمنية المتكررة والمتتالية والحرب، التي أدت إلى التدهور الاقتصادي والاجتماعي المريع. وفي مواجهة مثل هذا المشهد، قد يبدو من الجنون تخمين ما سيحدث في السودان في المستقبل. بدلًا من ذلك، فإن ما يمكن للمرء أن يحاول فعله هو تقييم الاحتمالات الممكنة لمختلف النتائج والتفكير فيما قد تفعله الجهات الفاعلة داخل السودان وخارجه لتجنب بعض الحالات الطارئة الأسوأ. وبالنظر إلى التاريخ الماضي، والتقدير على الظروف الحالية المتعثرة لتنفيذ اتفاق سلام شامل، والوضع السياسي غير المؤكد، وحتى المتقلب في البلاد، والضغوط الاقتصادية والأمنية الإقليمية والعالمية، يمكن لنا أيضًا أن نتساءل: ما هي السيناريوهات الأكثر ترجيحًا للسودان؟
سيناريو استمرار الصراع والتشرذم:
في ظل هذا السيناريو، يستمر الصراع في السودان بمستويات متفاوتة من الشدة، إذ تواصل الفصائل ذات المصالح الذاتية على الصعيدين الوطني ودون الوطني عملها. وتنقسم المجموعات المحلية حسب المنطقة والعرق، كما حدث منذ عام 2003م، إذا لم يكن لديها حافز يذكر للتراجع. وبذا تكون احتمالات التجزئة آخذة في الازدياد كلما تباعدت فرص الإجماع الوطني عن هدف مشترك. وعلى الرغم من تعهدها الابتدائي بالحياد، ورفض الانضمام للجماعات المتحالفة مع المقاتلين المدعومين من الحكومة، ضد قوات الدعم السريع، إلا أن البعض يرى أن استمرار تزويد وحدات معينة منها بالأسلحة يعزز احتمالية استمرار العنف، حيث أن القتال هو بالفعل المصدر الوحيد للدخل والهوية لعدد متزايد بسرعة من السودانيين المهمشين. وتظل الموارد مصدرًا للمنافسة العنيفة بدلًا من إمكانية السلام والمصالحة وبناء الدولة. لذلك، فإن فشل الدولة في إنفاذ القانون في كل البلاد لا يسمح فقط بزيادة النشاط وزيادة حدة الصراع في السودان، بل يجعل من الصعب على أي جهة فاعلة إقليمية، أو دولية إنشاء شكل جديد من أشكال الحكومة القابلة للحياة في الخرطوم، أو الاعتراف بما ستكون عليه الحكومات الجديدة لسلسلة من الأجزاء الجديدة، إذا لا قدر الله تواصلت متوالية الانقسام، خاصة وأن بعض الجهات الفاعلة تقترب من مفهوم "الوضع الفعلي" فيما يتعلق بهذا التشرذم، الذي بدأت تتأسس عليه أشباه حكومات. كل هذا في الوقت، الذي ما زالت أعداد متزايدة من اللاجئين تحاول الوصول إلى الدول المجاورة، في ظل ظروف صعبة بالفعل. ومع ذلك، ترى هذه الجماعة، أو تلك، أنه لا توجد أية مصلحة في خفض حدة النزاع من خلال تسوية سياسية مع الخرطوم، وتسعى بدلًا من ذلك إلى إزالة النظام بأكمله. وبالنظر إلى التحيز المتصور، فإنهم ما زالوا يعتقدون أنه فقط في ساحة المعركة يمكنهم إكمال هذا التحدي. وتتردد هذه الجماعة في الضغط على ميزتها العسكرية وتسعى بدلًا من ذلك إلى التوصل إلى اتفاق تفاهم متبادل المنفعة مع أصحاب الشوكة على الأرض. ولكن التدخل الحكيم يتأخر ويزيد في النهاية من تجزئة الدولة، مما يزيد من تأجيج الاستياء والصراع. وفي غياب سودان موحد على المستوى السياسي، تظل المصالحة الحقيقية احتمالًا بعيد المنال. وحتى لو كانت هناك تسوية بين مختلف الفصائل والجماعات المتحاربة، فإن المصالحة وإنشاء هوية وطنية سيشكلان تحديًا لأن "الأيديولوجيات المتناقضة" قد دخلت بعمق في الحياة اليومية، وذلك في إبراز الانقسامات العرقية والجهوية. وآفاق التدخل الخارجي آخذة في الازدياد، ولكن بالنسبة للعديد من الجهات الفاعلة في الواجهة لا تزال الآثار الجانبية لا يمكن الدفاع عنها. وسواء كانت مقصودة، أو غير مقصودة، فإن تأثيرات تدفق أزمات السودان إلى القرن الإفريقي وغربه ستشكل مستقبل منطقة أوسع، إلى جانب ارتفاع "شهية" إقليمية قُوىً أخرى، لم تعد قادرة على الابتعاد عن الصراعات الجهوية والعرقية المتوطنة في السودان.
سيناريو المصالحة والاستقرار:
تحتاج الحكومات، التي سيتم بناؤها في المستقبل إلى إعطاء الأولوية لتعزيز الأمن من خلال الحوار والنقاش والمصالحة والتعاون كأداة رئيسة لبناء السلام بعد انتهاء الصراع، لأن المفاهيم والمصطلحات الرئيسة، التي ينبغي أن يتمسك النظام الحالي، وكذلك النظام المستقبلي، الذي يتم التراضي عليه، بتطوير السيناريوهات والرهانات المستقبلية، بالتركيز على أهمية البيانات التجريبية فيما يمكن وضعه في الميثاق الاجتماعي والسياسي، والذي يتراضى عليه أهل السودان، كمدخل للمصالحة الاجتماعية. ويستكشف سيناريو المصالحة والاستقرار إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية للأزمات المستمرة في السودان. وعلى الرغم من أن أيًا من المشاركين في الموائد المستديرة العديدة، التي انعقدت، وتلك التي يمكن تتهيأ لها فرص الانعقاد، لم يعتقد أن هذه كانت نتيجة مرجحة للغاية لدعم هذا السيناريو، إلا أن كل طرف يستخدم العناصر والمقترحات من تلك المناقشات لتعزيز طريقة الخطاب الخاص به حول مستقبل السودان. وتعد فترة الحكم الانتقالي؛ إذا صدقت النوايا، وقتًا مهمًا يمكن فيه فرض تقاسم السلطة، التي توجب أن يكون هدف السياسة المستقبلية هو المساعدة في صياغة تسوية سياسية شاملة. فهناك ثلاث مكونات أساسية ضرورية للمصالحة في السودان: المساءلة عن المظالم والفظائع، التي ارتكبت في هذه الحرب، ورؤية مشتركة للمستقبل تخرج عن طبيعة الوهم والإنكار، والحاجة إلى ضمان السلام والمصالحة الدائمين على مستوى المجتمع، لأن هذا السلام والمصالحة هما شرطان أساسيان لإرساء نظام دائم ومقبول بشكل عام، مترافقًا بالحاجة إلى إصلاحات اقتصادية لإحياء الدولة السودانية المستقبلية. إذ إن الانحراف الخادع في الابتعاد عن الحقائق الصعبة للسلطة لا يوفر فرصة تذكر لمستقبل مشرق، بل سيعني فشل التسوية السياسية استمرارًا إضافيًا في الاتجاه الحالي، ويجعل السودان دولة فاشلة.
سيناريو التعافي والاستقرار:
يعتمد التعافي والاستقرار السياسي بعد الحرب بشكل حاسم على اقتصاد سليم وفعال؛ والحالة المزرية للاقتصاد السوداني هي السبب الوحيد الأكثر أهمية، الذي يجعل البلاد تعاني من صراع عنيف منتظم، على الرغم من توزيعها الجغرافي. ومن المفارقات أن الموارد الطبيعية الكبيرة في السودان والظروف الزراعية المواتية قد أثارت أيضًا حروبًا أهلية حيث ترغب كل من الدولة في المركز، ومختلف الجماعات المتمردة في الأطراف الاستيلاء والسيطرة عليها. ورغم ما أحدثته الحرب من دمار، هناك تفاؤل عام بشأن آفاق النمو، لكن التنمية الاقتصادية المستقبلية للبلاد لا تزال غير مؤكدة إلى حد كبير. وستظل الزراعة قطاعًا بالغ الأهمية؛ يعتمد عليها أكثر من 80 % من السكان في سبل عيشهم. وقد تضررت المناطق الريفية، التي كانت بؤرة العنف الدوري والمطول في الحربين الأهليين، بشدة، وسيستغرق الأمر سنوات عديدة حتى تعود الزراعة في بعض المناطق إلى ما كانت عليه عام 2023م، كما أن الاضطرابات المتعددة في الإنتاج، الناجمة عن الحرب والبرامج الحكومية المتعثرة، كان لها آثار ضارة على روابط السوق، على حساب المناطق الريفية على وجه الخصوص. وهناك حاجة إلى المزيد من البنية التحتية الريفية، التي يمكن أن تُؤدي إلى دورٍ حيويٍ في الجهود المبذولة لتنويع اقتصاد مناطق البلاد. على الرغم من أنه قيل، بشكل مثير للجدل إلى حد ما، أن اقتصاد الجزيرة في وسط البلاد متطور، سواء من حيث الخدمات، أو الإنتاج غير الزراعي، حيث أن الأطراف، على المستوى الوطني، أكثر نسبة عالية من الصادرات وغالب الدخل القومي يأتي من هذه الأطراف، بينما تم تخصيص القليل من الإيرادات الحكومية لها. وقد أدى التفاوت في الدخل ومستويات التنمية على الأساس الوطني، على الصعيد الإقليمي وبين مختلف فئات الناس، إلى إفساد أي محاولة لإعادة الإعمار بشكل متماسك. ولذلك فإن احتمال إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة واعدة، ولكن الجانب الحيوي هو تبني سياسات من شأنها أن تحافظ على النمو على المدى الطويل، إذ لا يمكن التقليل من أهمية الاقتصاد فيما يتعلق بالمشهد الاجتماعي والسياسي الأوسع نطاقًا. فالازدهار، ومعه الاستقرار السياسي، في كل طبقة من طبقات المجتمع السوداني سيقلل من احتمالية نشوب صراع في المستقبل.
خواتيم:
تمثل السيناريوهات، التي وردت الإشارة إليها، نهجًا تعدديًا ومتنوع الأوجه لقضية معقدة بطبيعتها، وهي السودان ما بعد الحرب. على هذا النحو، ينظر إلى الخلافات والتناقضات في السيناريوهات وفيما بينها على أنها أقرب إلى المصالح ووجهات النظر والقوى المتعددة والمترابطة والمتغيرة، التي دفعت الصراعات وشكلت السياسة السودانية حتى الآن، ومن المرجح أن تستمر في تشكيل مستقبلها الممكن والمحتمل. يتم النظر إلى إمكانات وحدود الجهود الشمالية والدولية لعكس أخطاء الماضي على خلفية أهميتها التراكمية والمركزية في الصراع السوداني في حد ذاته وكيف تتشكل وتتشكل من خلاله. هناك العديد من الغايات والوسائل المرغوبة والمجدية والأساسية الضرورية بشكل عام لوضعها في الاعتبار ومتابعتها واعتمادها في أي مزيج من التسويات السياسية السودانية المستقبلية، أو الحكومات المعنية لإرساء سلام مستدام وتمكين تنمية اجتماعية واقتصادية قابلة للحياة بشكل معقول للشعب السوداني ككل.
لكي يكون أيٍ من هذه السيناريوهات ممكنًا؛ معظمها، أو الجميع، ودائمًا ومحفزًا لأي طرف بشروط مستدامة ومقبولة، يجب أن يكون أي قرار، أو مجموعة علاقات، أو حكومة، وما إلى ذلك، متطورًا وشاملًا ومثاليًا، بعد عملية واسعة ومستجيبة وشاملة حقًا من التسويات السياسية والاتفاقيات الدستورية والتنمية الاقتصادية، لا سيما فيما يتعلق بتقاسم الإيرادات، وتقاسم السلطة وتقاسم الثروة والاستشارات الشعبية الرئيسة على مستوى البلاد، والآليات القضائية، وغيرها من الآليات لتحديد هذه النسب المئوية وتسوية النزاعات بشأنها. وربما لا يمكن بدء ذلك واستدامته وتكييفه إلا من خلال "تقسيم ناعم" شبه مفروض، بعد تعديل عميق في الفكر الشمولي والفهم الموضوعي حول ما يدفع معظم الصراعات وسياسات النزاعات في السودان. ولذلك، فالمزيد من العمل والجهد، ربما حتى نهاية الفترة الانتقالية المتفق عليها، وما بعدها، لتحدي كل الصيغ القديمة للحكم، أو ابتداع نظام آخر، ومحاولة المضي قدمًا، أو تعلم التعايش مع ترتيبات أخرى، مع الحرص على تبني وتعزيز الوسائل والغايات الضرورية للوحدة بشكل عام.