array(1) { [0]=> object(stdClass)#13490 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 202

المصالح الخليجية ـ الأوروبية تتلاقى حول الأمن والتعاون في الشرق الأوسط رغم المتغيرات

الإثنين، 30 أيلول/سبتمبر 2024

 لن نتماهى مع الرعب الغالب على تحليلات صعود اليمين المتطرف في الانتخابات المحلية والأوروبية، فقد تناولتها برؤية أحادية حادة بصورة عامة دون التعمق في اختلاف تعاطيها السياسي وميادينه، كالأحزاب اليمينية المتطرفة التي اختارت تحقيق أجندتها من خلال اللعبة الديموقراطية على عكس تلكم الأحزاب اليمينة الشعبوية المتطرفة الأخرى التي اختارت الشارع وتعبئته لتحقيق مطالبها من خلال الضغوطات التحتية، كما لم تتغلغل في خارطة البرلمان الأوروبي الجديد حتى تستشرف القوى المؤثرة فيه خلال المدى المتوسط - خمس سنوات – ومن الخطأ كذلك ربط صعود اليمين المتطرف بالسياقات التاريخية المخيفة كالفاشية والنازية ، وقد تصوره وكأن أوروبا في صيرورة التحول إليهما، وكذلك من الخطأ وضع أحزاب تطرف اليمين في أوروبا في سلة واحدة رغم وجود خصائص مشتركة فيما بينها.

كما تتجاهل التحليلات قوة اليسار الأوروبي وفوزه  في دول أوروبية عديدة كهولندا إسبانيا، وكذلك في البرلمان الأوروبي الجديد رغم عدم تحقيقه – أي اليسار – الأغلبية مثل بقية الأحزاب الأخرى، مما ينبغي اعتبار اليسار كقوة موازية راهنة ومستقبلية خاصة وأنه يملك كذلك مقومات منافسة اليمين المتطرف إذا ما لعب بورقة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي هي ليست حكرًا على الأحزاب اليمينة لوحدها، وإنما تشكل أهم أجندات اليسار كذلك، لكنه لم يشتغل عليها وتركها لليمين المتطرف التي من خلالها حقق انتصارات انتخابية في ظل ما تنتجه الأحزاب التقليدية الحاكمة كالليبيرالية من مشاكل اقتصادية واجتماعية وأزمات وتوترات عديدة .

وبذلك لم تقدم التحليلات الرؤية الصحيحة للمستقبل الأوروبي سواء على كل مستوى دولة أو في إطار الاتحاد الأوروبي وعلاقات الجانبين بدول مجلس التعاون الخليجي خاصة والعرب عامة، لذلك هناك حاجة ماسة لرؤية تحليلية عميقة تحدد مجالات الأيديولوجيا ومجالات المصالح بين أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي في حقبة صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وكذلك طبيعة الأدوار التي ينبغي لدول مجلس التعاون أن تأخذ فيها زمام المبادرات العاجلة؟ فأوروبا الآن تدخل في صراع الأفكار والإيرادات التي تحسمها اللعبة الديموقراطية وليس الثورات والانقلابات كالتي تحدث في العالم الثالث، هذه اللعبة هي التي يتوقف عليها مستقبل علاقات أوروبا بالخليج ومن ثم ينبغي أن يكون للخليج من دور في التأثير عليها؟

وعندما ننظر لصعود اليمين المتطرف على الصعيدين المحلي والأوروبي فإن ذلك  لا نعتبره رعبًا أوروبيًا عابرًا للحدود، وإنما هو جرس إنذار مرتفع، يجعل من بقية منافسيه إعادة حساباتهم، والتفكير في الانتخابات المقبلة من الآن، ومن الأسباب التي صعد منها اليمين المتطرف، سنتناول هذا الملف من أربعة أعماق تعزز الطرح سالف الذكر ، وتحتم الحوار الخليجي العاجل مع القوى السياسية الجديدة في أوروبا - مباشرة أو غير مباشرة -  لدواعي استكشاف أفق التعاون معها من جهة ، وتعزيز قوة الأحزاب الأوروبية التي قد تخدم مصالحها وفق ما سيكشفه الحوار الخليجي  معها، وهذه الأعماق هي:

  • أي يمين متطرف يمكن الحديث عنه.
  • الاستدلالات بنتائج الانتخابات الفرنسية.
  • الاستدلالات الاقتصادية وضغوطاتها الاجتماعية.
  • من يحتاج لمن: جدلية مستقبل العلاقات الخليجية الأوروبية.

سنتناول هذه الأعماق من مرجعية التفكير المؤطرة لهذا المقال، وهي أنه على دول المجلس الخليجي عدم التماهي مع القلق من صعود اليمن المتطرف، خاصة إذا ما علمنا الآتي:  

  • إن أيديولوجية اليمين المتطرف ليست كلها صلبة، وليس كلها واحدة.
  • الإطاحة بالحكومات الليبيرالية واليسارية واستبدالها بأنظمة قومية لن تمكنها الظروف واللعبة الديموقراطية من أن تستلهم من إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية.
  • إن اشتغالها في السياسة والديموقراطية سيكونان كفيلان بتهذيب خاصية تطرفها ما عدا بعض ملفاتها الداخلية.

أولًا: أي يمين متطرف مرعب؟

يستوجب التفرقة بين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا حتى يمكننا أن نبني المفاهيم الصحيحة عنها عوضًا عن التعميم المفرط، وحتى ندرك واقعها بكل خلفياته، وهذه الخلفيات هي التي نستمد منها اقتراحنا بحتمية مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي بفتح حوار استراتيجي مع القوى السياسية الصاعدة في أوروبا مع إيلاء أولوية لليسار واليمين المتطرف، فمن المعلوم أن اليمين المتطرف لا يعمل كله في السياسة، فهناك نوعان من الأحزاب اليمينية المتطرفة:

الأول -اليمين الشعبوي المتطرف، فهو لا يشارك سياسيًا، فأحزابه هدفها تسجيل مواقف وتعبئة صفوف أنصارها من أجل تسويق خطاب تحريضي هدفه التشويش أكثر من التأثير على الواقع.

الثاني :  الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى، وهى تتميز بقدر من الواقعية السياسية ، مما يجعل خطابها مقبولًا لدى جزء كبير من ناخبي اليمين في عمومهم، وملائمًا كذلك لمتطلبات الانخراط في الديموقراطية الليبيرالية القائمة على التعددية والاختلاف مثل الجبهة الوطنية الفرنسية وحزب الوسط الديموقراطي السويسري، وحزب الحرية الهولندي وحزب الفجر اليوناني، وقد حققت هذه الأحزاب بواقعتيها مكاسب سياسية مهمة في العقدين الأول والثاني من القرن الـ 21، وشاركت في حكومات وتمثلت في برلمانات بلادها والبرلمان الأوروبي، ولم تقود بلدانها أو  أوروبا إلى تطرف منعزل وإنما تماهت مع اللعبة السياسية ونتائجها، وما حققته هذه الأحزاب داخل بلدانها وأوروبا أكبر الاستدلالات أمكانية الحوار البراغماتي الخليجي معها .

 

و يبني اليمين المتطرف تطرفه ضد المسلمين والأجانب عمومًا، وله تمسك متطرف بالقيم الوطنية وبالهوية السياسية والثقافية واللغوية، وله نزعة وطنية مفرطة رافضة لكل أشكال الاندماج الإقليمي بحجة حماية السيادة،  ويتسم بميل شديد للمحافظة الدينية المسيحية، كما أن لليمين المتطرف نزعة متأصلة نحو رفض الرأسمالية والليبرالية خوفًا من التحولات العميقة وما تصاحبها من صناعة الفقر والتهميش والمساس بالقيم والأخلاق، وبالتالي، فإن دول مجلس التعاون الخليجي ستسلم من تسييس حقوق الإنسان  وحرياته، فاليمين المتطرف له تحفظات كثيرة على بنود اتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان  وحرياته العالمية.

ويرى اليمين المتطرف عدم تدخل الحكومة في الاقتصاد، وجعل السوق حرة بضرائب أقل، أما اليسار فهو مع أن تكون الحكومة صاحبة الدور الأكثر، وأن تطبق الضرائب على الأثرياء من أجل تزويد الحكومة بالمال لإعادتها للناس عبر الخدمات كالتعليم والصحة وبذلك تتحقق المساواة، وترى دراسات العلوم السياسية على أن أحزاب اليمين المتطرف تمثل الأيديولوجيا الوطنية المنهزمة في الحرب العالمية الثانية، وقد تجد دول المجلس الخليجي تخفيفًا من جنوح الليبيرالية المؤثرة على مجتمعاتها.

لكن – وهذا هو الأهم– إن بلورة تطرف الأحزاب اليمينية التي تخوض اللعبة الديموقراطية سيكون ضمن سياقات اللعبة وأدواتها، مما قد نشهد تباينًا لنوعي اليمين المتطرف في المشهد السياسي الأوروبي عامة والمحلي خاصة، فمن دخل اللعبة السياسية سيجد نفسه مجبرًا على الانصياع لنتائجها، وهى نتائج ستكون حسب مبدأ الأغلبية في الفوز وفي اتخاذ القرارات وصناعة التشريعات، بينما الآخر سيكون بمقدوره تحريك الشارع للضغط، وجنوح بعض أفراده في عمليات تطرف عنيفة إذا لم تتحقق بعض الأجندات الأساسية كالحد من الهجرة والأجانب والأسلمة وتحسين الأوضاع المعيشية.

وما دام المنطقتين الاجتماعية والاقتصادية قد أصبحتا بمثابة مواد خام لمصانع إنتاج الفاعلين والسلطة الحاكمة في أوروبا، فهذا يجعل الأحزاب عندما تصل للسلطة أكثر برغماتية ومرونة في علاقاتها النفعية مع الدول والتكتلات الإقليمية والدولية ، ولن يكون تطرفها إلا في المجالات التي تلامس الأسباب الداخلية غالبًا التي أوصلتها للسلطة كالهجرة والبيئة والحرب الروسية والأوكرانية التي تستنزف الأموال الأوروبية وترفع أسعار الطاقة، أما الدول والتكتلات كمجلس التعاون الخليجي التي يكون لبلدانها علاقات اقتصادية ومالية وتجارية أو يمكن أن تحصل منها على منافع لتأمين المطالب الشعبوية، فنتوقع تطوير مجالات التعاون معها عوضًا عن تغييرها لأسباب كثيرة منها اقتصادية وطبيعية  المحتدمة على المصالح والمواقع الجيوسياسية – كما سيأتي لاحقًا -.

ولنا في حزب المحافظين نموذجًا استشرافًيا، فهو قد مكث في السلطة منذ عام 2010م، وفي الانتخابات الأخيرة فاز فيها حزب العمال فوزًا ساحقًا، والسبب كامن في الأسباب نفسها التي تجعل الأحزاب اليمينة تكتسح الانتخابات في بقية الدول الأوروبية، فقد تعهد حزب العمال ببناء 1.5 مليون منزل خلال فترة البرلمان لحل الأزمة السكانية، لن ندخل هنا في إمكانية قدرته في الوفاء بتعهده من عدمها، الأهم هنا أن فوزه الكاسح كان مرتبطًا بملامسة المشاكل الاجتماعية، أما عدم الوفاء بها خلال الخمس سنوات المقبلة فسيهبط به مثل رفعته.

ومثال آخر إيطاليا، ففيها حكومة يمينية جديدة انتخبت في أواخر سبتمبر الماضي، وتصف بأنها الأكثر يمينية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، فإن مسار مستقبل إيطاليا يتسم بالتطور وليس التغيير الراديكالي، والراديكالية ستنصب على الشأن الداخلي بالقدر الذي يحافظ على شعبيتها اليمينة، ويضمن لها الفور في صناديق الانتخابات المقبلة، كالهجرة والإصلاح الضريبي والحرب في أوكرانيا .. الخ.  وليس على علاقاتها الخارجية التي ستتوسع مع الخليج لدواعٍ كثيرة سياتي ذكرها لاحقًا.

 

والتوقع كذلك أن تظل السياسة الخارجية الإيطالية في عهد  الائتلاف اليمني الحاكم ( حزب الرابطة الذي أسسه ماتيو سالفيني وحزب إلى الأمام يا إيطاليا برئاسة سيلفيو برلسكوني وحزب أخوة  إيطاليا برئاسة جيورجيا ميلوني  المتطرف ) مرنة بشكل عام ، خاصة إذا ما علمنا بأن المستقبل الاقتصادي لإيطاليا يعتمد على تلقي كميات هائلة من المساعدات من الاتحاد الأوروبي في بروكسل، فقد حصلت روما على 200 مليون يورو بين المنح والقروض للتعافي من جائحة كرونا،  رغم تأخر المساعدات الأوروبية كون إيطاليا كانت الدولة الأولى التي استهدفتها الجائحة.

إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا لا يمكن مقارنته بالموجة الفاشية والنازية التي اكتسحت أوروبا وأجزاء من العالم في القرن الماضي، فصعوده الآن كان بسبب فشل الأنظمة الليبيرالية وتقاعس الأحزاب الأخرى وبالذات اليسارية عن توفير الاستقرار والرفاهية الاجتماعية .. وعودتها – أي هذه الأحزاب -مرهونة باستدراك أخطائها الاستراتيجية، ونخص بالذكر هنا اليسار، أما الأحزاب الليبيرالية فإنها لن تتمكن من عقلنة جنون النيوليبرالية التي صنعت الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء وعداء الأجانب وفقدان الأمن.

وحتى لو تم إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية مجددًا خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن التخوف من أن يكون ملهمًا وزعيمًا لليمين المتطرف في الأميركيتين وأوروبا ومناطق أخرى من العالم مبالغ فيه، وهنا يستوجب التوضيح أن تأثيره قد يكون على صعيد الأحزاب اليمينية الشعوبية التي تتخذ من الشارع ميدانها التأثيري، وقد نشهد في عهد ما يسمى " بالتطرف العنيف " الذي يكون وراءه فرد أو أفراد أو جماعات متطرفة.

بينما الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تشتغل بالسياسة ستظل في إطار اللعبة السياسية وصراع الإرادات الحزبية وحاكمية صناديق الاقتراع، وهذا لا ينفي من مصداقية الطروحات التي ترى في صعوده صيرورة وليست ظاهرة، لكنها تظل محكومة بمن يكسب الناخبين، وهذا قد أصبح الآن واضحًا، ووضوحه يكمن في أسباب صعوده، وهى اقتصادية واجتماعية وقومية .. وحتى لو استفرد بالأغلبية مستقبلًا فإنه سيكون محكومًا بحجم مصالح بلاده مع الدول وشعوبها أكثر من الأيديولوجيا الصلبة، وهذا ما سنحاول إبرازه من خلال الاستدلالات التالية:

ثانيًا: الاستدلالات بنتائج الانتخابات الفرنسية

وهى ستوضح لنا بجلاء  أن صعود اليمين المتطرف الآن  ومصيره مستقبلًا ، يدخل  في إطار صراع الأفكار والإرادات التي تحسم في إطار اللعبة الديموقراطية التي من خلالها تنتج الأنظمة والسلط والفاعلين سواء كانت ليبيرالية أو يسارية أو يمينية متطرفة أو مهما أخذت من ألوان سياسية فكرية أخرى، ففي هذه الانتخابات تصدرت “الجبهة الشعبية” الجديدة لليسار بقيادة جان لوك ميلونشون النتائج (182 مقعداً) فيما احتل تحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرتبة الثانية (168 مقعداً)، وهنا تعد هزيمة لحزب التجمع الوطني المتطرف بقيادة جوردان بارديلا ومارين لوبان في الانتخابات،  فقد حصل على 143 مقعداً، ورغم هزيمته، لكن اليسار لم يحقق الأغلبية، وفي المقابل جاءت هزيمة اليمين المتطرف في هيئة النصر ،  فقد حقق نتائج أكثر من الانتخابات السابقة عام 2022م، (89 مقعداً)، أي بزيادة 54 مقعداً، وهى تعكس شعبيته الاجتماعية.

فهل هذا يدعو للرعب أم التفاؤل المشوب بالحذر؟ كلا الاحتمالان يتوقفان الآن على نجاح اليسار  سواء في البرلمان الأوروبي أو السلطة الوطنية، ففي فرنسا الآن ينبغي على الجبهة الشعبية لليسار الجديد أن تعمل من الآن على توسيع قاعدتها الشعبية من خلال مواقعها في السلطة التشريعية والسياسية وأن تلامس خطاباتها المشاكل الاقتصادية وهواجس الفرنسيين، فهي لها قاعدة شعبية بدليل استفرادها بعدد المقاعد التشريعية الكبيرة رغم عدم تحقيقها الأغلبية، و نتفق مع الآراء التي ترى أن انتصار اليسار يؤجل خطر اليمين ولا يلغيه، وهذا الأخير سيتوقف مستقبله على الدور الاجتماعي  لليسار وتحالفاته الوطنية والأوروبية من الآن وخلال الخمس سنوات المقبلة.

وهناك رؤية تتقاطع مع ما نطرحه في هذا العمق من حتمية تحالف اليسار مع بقية الأحزاب الأخرى غير اليمينية كتحالف معسكر ماكرون الوسطي حول برنامج حد أدنى لمعالجة المسائل الملحة، وانتشال فرنسا من مخاطر اليمين المتطرف، بشرط عدم محاولة ماكرون إضعاف مكونات اليسار ، والتعامل معها ككتلة واحدة ، أما العكس كما ترى هذه الرؤية، فإن هذا  يضعف اليسار ، فجبهة اليسار ليست متماسكة، وقاعدتها الجماهيرية ليست الآن واسعة بما فيه الكفاية بسبب الابتعاد عن أجندتها الاجتماعية وضعف خطابات قادتها  مقارنة بقوة  خطابات اليمين المتطرف، فكيف إذا ما تم إضعافها ككتلة ؟

وقد تجد قوى اليسار نفسها في حالة الضرورة إلى التحالف ليس على مستوى فرنسا فقط وانما داخل القارة الأوروبية إذا ما شكل اليمين المتطرف رعبًا عابرًا داخل الحدود الأوروبية، عندها سيكون عنوان حقبة اليسار  التالي " حتمية وقف تقدم اليمين الشعبوي "  وهذا لن يأتي إلا من خلال  معالجة الأسباب المحلية/ الوطنية  أولاً ، وبالتالي ستدخل أوروبا كلها في انشغالات يغلب عليها الشأن الداخلي، ولن تتأثر سياساتها الخارجية إلا بالقدر الذي يكون له تأثير على داخلها كالحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الوقود ومشاكل البيئة والهجرة - كما سبقت الإشارة اليه _ .

ثالثًا: الاستدلالات الاقتصادية وضغوطاتها الاجتماعية

تعيش الدول الأوروبية الآن في أوضاع اقتصادية حرجة جدًا، تؤدي بالمئات من شركاتها إلى موجة إفلاس مخيفة، وهذا الخوف سيقف لا جما للرعب من اليمين المتطرف على مستوى ممارسة السياسة الخارجية، وسيجبرها أن تكون برغماتية  في علاقاتها الاقتصادية  الإقليمية والدولية، فمثلًا ألمانيا، فهناك " 1400 " شركة أعلنت إفلاسها في شهر يوليو الماضي، ويتوقع أن يصل عدد الشركات الألمانية المفلسة إلى " 20 " ألف شركة ، وفي النمسا " 33 " شركة أعلنت الإفلاس في أخر الستة الشهور الأولى من العام الحالي، وحتى بريطانيا التي خرجت من بريكست هناك " 47 " ألف شركة تواجه خطر الإفلاس ... والقائمة طويلة .

 ويرجع سبب الإفلاس بسبب نقص عمليات التمويل وموجات الغلاء التي أعقبت حرب أوكرانيا وسببت ارتفاع الفائدة بصورة قياسية، ويدير المهاجرون المستهدفون من اليمين المتطرف " 630 " ألف شركة في إيطاليا، ويملكون " 75% من أسهمها، ولم تقف موجة الإفلاس داخل حدود أوروبا فحسب، وإنما تجتاح العالم كله، ففي اليابان مثلًا، هناك " 10 " آلاف شركة يتوقع إفلاسها العام الحالي.

لو أخذنا حجم التبادل التجاري بين فرنسا ودول مجلس التعاون الخليجي، مثلًا التبادل الفرنسي/ السعودي، فقد شهد قفزة لافتة خلال السنوات الأخيرة، إذ نما بنسبة 41 % خلال عام 2022م، مقارنة بعام 2021 م، وفي الفترة نفسها، تزايد التبادل التجاري بين باريس وأبوظبي  بنحو 17 % ، وما دعم فرنسا استضافة الرياض إكسبو 2030 على حساب إيطاليا لا ليعكس لنا تأثير حجم المصالح وآفاقها بين البلدين، وبلغة الأرقام وصلت الصادرات لدول الخليج العربية إلى 15 مليار دولار عام 2022م، وتوفر الرياض وأبوظبي باعتبارهما أكبر سوقين في المنطقة فرصًا للشركات الفرنسية في مجالات مختلفة مثل الطاقة والصحة والبناء والتكنولوجيا والصناعات الغذائية والسياحية .. الخ.

كما يعتبر الخليج والاتحاد الأوروبي معًا يمثلان 20% من الاقتصاد العالمي، ويغطيان أكثر من نصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة على مستوى العالم، وفي عام 2020م، حل الاتحاد الأوروبي في المرتبة الأولى كأكبر شريك لمجلس التعاون الخليجي من حيث الاستيراد، والمرتبة الرابعة من حيث التصدير .. الخ وقد كانت أزمتي البيئة والطاقة في أوروبا بسبب الحرب الأوكرانية احدى الأسباب الرئيسية في صعود اليمين المتطرف، وقد تكون سببًا في سقوطه إذا ما التقى معه معطيات أخرى كاستمرار أزمات البطالة والفقر خصوصًا.

خامسًا: من يحتاج لمن: جدلية مستقبل العلاقة الخليجية الأوروبية.

وهنا تساؤلان:

  • هل سيكون بإمكان البرلمان الأوروبي مهما كانت طبيعة القوى المسيطرة عليه يسارية يمينية متطرفة وسطية .. أن يضحي بهكذا حجم من المصالح الضخمة والمتعددة مع الخليج؟
  • وهل ستستغني أوروبا عن جيوسياسية الخليج، وهي بوابة الشرق والغرب الأمنية ومن أهم مصادر استقرار أوروبا؟

هذه الجدلية تفرض نفسها فوق الاعتبارات الأيديولوجية للبرلمان الأوروبي وللأنظمة الأوروبية الجديدة، وهي التي ستلجم الأفكار المتطرفة حتى لو سيطر اليمين المتطرف على البرلمان الأوروبي، وقد أوضحنا سابقًا الأوضاع الاقتصادية الحرجة وحاجة الدول الأوروبية إلى دول مجلس التعاون الخليجي لإنقاذ اقتصاداتها من التدهور، فإفلاس المئات من الشركات داخل كل دولة أوروبية مخاطره متعددة وبالذات اجتماعية.

والشركات هي قاطرة النمو، وهى مصنع الوظائف وتحقيق الرفاهية للشعوب، لذلك لن تكون الدول الأوروبية على المستويين الفردي والجماعي في استغناء عن دول مجلس التعاون الخليجي في نواحٍ كثيرة، أبرزها الطاقة الرخيصة ومن مصادرها التقليدية، كما يلعب الخليج دورًا مهمًا في تحقيق الاستقرار في أسواق النفط، وعلى المدى المتوسط والطويل، فإن الخليج سيصبح أيضًا من المنتجين والمصدر المهمين للطاقة المستدامة حيث تتوفر على أفضل موارد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في العالم، كما تتجه نحو الاقتصاد الأخضر بشراكات عالمية بما فيها أوروبية .. مما تظهر الدول الخليجية معادلة صعبة إن لم تكن مستحيلة الاستغناء عنها

، لذلك نتوقع أن تشهد العلاقات الخليجية ـ الأوروبية خلال السنوات الخمس المقبلة تطوًرا وليس تغييًرا في مجالات الاقتصاد والأمن والدفاع والتكنولوجيا بما يخدم مصالح الجانبين وطبيعة الدور الأوروبي الجديد التي تطمح إليه أوروبا عالميًا وفي منطقة الشرق الأوسط خاصة، فهناك رغبة أوروبية لأن يكون لها دور بارز في قضايا المنطقة ومشاكلها، وقد تدفع نحو فصل جديد غير مسبوق في العلاقات الخليجية الإيرانية بحكم مصالحها مع طهران، فمثلًا ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا تعدمن أكبر الشركاء التجاريين لإيران.

 

وهنا مجموعة فرص ينبغي على دول الخليج استغلالها أبرزها، تحسين الاتفاقيات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي أهمها الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، ومبادرة إسطنبول للتعاون 2004م، فمثلًا هذه المبادرة طرحت قائمة الأنشطة الثنائية الاختيارية لكل بلد خليجي، وأهمها: مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل والتأهب للكوارث والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وتقديم الاستشارات والتدريب بالمجالات الدفاعية وتعزيز العمل العسكري المشترك والمشاركة بمناورات الناتو ، لكن التطبيق اقتصر على التدريب غالبًا، كما ينبغي الدفع إلى تغيير منهج المبادرة التعاوني من الثنائية إلى الجماعية.

ومهما كانت القوى الأوروبية الجديدة في البرلمان الأوروبي أو الدول الأوروبية فإن مصالحها تتلاقى مع دول مجلس التعاون الخليجي حول قضايا الأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط وأوروبا، وسيلتقي الجانبان حول قضية حل القضية الفلسطينية، فاليسار واليمين المتطرف أكثر تفهمًا للحقوق الفلسطينية من القوى الليبيرالية التي تقف إلى جانب المحتلين في حربهم على غزة، وهنا تجد دول المجلس الخليجي نفسها في صيرورة / تحول ينبغي أن تستغلها في إعادة صناعة علاقات متينة مع أوروبا لخدمة كل رواؤها الاستراتيجية دون

مقالات لنفس الكاتب