إذا كانت الثقافة العربية والإسلامية هما البيت الكبير الجامع لهذين المكونين العربي "العرقي " والإسلامي "الديني" فإن طبيعة العالم العربي أوجدت نمطًا ثقافيًا داخل هذا المكون الكبير يمكن أن نطلق عليه " الثقافة المناطقية".
هذه الثقافة المناطقية تخص مجموعة الدول التي توحدها طبيعة اجتماعية وقبلية تحكمها جملة من العادات والتقاليد والموروثات مثل المجتمع الخليجي والمجتمع المغاربي.المجتمع المغاربي الذي ينضوي تحت مظلته المغرب الكبير ويتكون من مجموعة دول " المغرب، تونس، الجزائر، موريتانيا، ليبيا " له نمط ثقافي مشترك يعود إلى التاريخ القديم الذي يؤكد أن هذه الدول كانت في السابق إقليمًا جغرافيًا واحدًا، حكمته ثقافة واحدة، هكذا منطقة الخليج العربي التي تربطها وحدة الجغرافيا و "وحدة التاريخ ".
مع طي صفحة الاستعمار والدخول إلى مرحلة الاستقلال والتحرر بدأت تتشكل الدولة الخليجية بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكن ظل النمط الثقافي الواحد يجمع شعوب تلك المنطقة، كانت مرحلة السبعينات هي مرحلة التأسيس لبعض دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والبحرين، وكانت السبعينيات أيضًا مرحلة النهوض لبعض الدول الأخرى مثل السعودية والكويت اللتين سبقتا في التأسيس ، وبالتالي مرحلة السبعينيات هي مرحلة فارقة في تاريخ دول الخليج العربي حيث يمكن أن نسميها مرحلة الدولة الخليجية في معناها السياسي. البحرين استقلت عن بريطانيا عام 1971م، وأعلنت كدولة مستقلة وفي 2002م، تحولت إلى مملكة، الكويت استقلت عن الحماية البريطانية عام 1962م.
السعودية حتى توحيد الملك عبد العزيز جميع المناطق التي كان يسيطر عليها وإعلان اسمها المملكة العربية السعودية كان ذلك عام 1932م. والإمارات العربية المتحدة في ديسمبر من عام 1971م، في تجربة وحدوية حقيقية على أرض الواقع لتضم سبع إمارات تحت راية واحدة ودستور واحد ودولة واحدة
السياق الفكري
كما كانت السبعينات الوعاء الزمني لميلاد الدولة الخليجية فإنها أيضًا كانت الوعاء الفكري الذي خلق التأثير الكبير بين ما كان قائمًا بالفعل من تيارات وحركات فكرية في محيطها العربي والإسلامي والعالمي وبين ثقافة الخليج.هنا يجب الإشارة إلى ثلاثة مسارات تحدد قراءة البعد الثقافي الخليجي، أولها: مسار الدولة الخليجية وتأسيسها ونشأة مؤسساتها.
ثانيًا: مسار الثقافة التي هي ممتدة وسابقة على نشأة الدولة ويربطها محيط أوسع من فكرة حدود الدول وهو فضاء الشعوب الخليجية التي تحكمها أعراف قبلية ممتدة لها ثقافتها الخاصة.
ثالثًا: مسار النهضة خصوصًا الاقتصادية منها التي دخلت في سباق كبير بين خلق بيئة ثقافية تواكب التطور الاقتصادي والمدني وبين مجاراة ومواكبة التقدم الاقتصادي لكن مع الوقت اكتشفنا أن النهضة الاقتصادية كانت سباقة على النهضة الثقافية وذلك يعود لأسباب كثيرة، وأبرز أن السياق الفكري الذي نشأت فيه الدولة الخليجية كان سياقًا متغيرًا، فقد ولدت الدولة في تحولات فكرية كبرى، كانت هناك أيدولوجيات تموت وأخرى تولد ، كان هناك موت " القومية العربية " بعد هزيمة 1967م، وفشل مشروع الوحدة العربية بين مصر وسوريا، وانهيار الجمهورية العربية المتحدة، وضياع أجزاء كبيرة من الأمة العربية " سيناء في مصر، الجولان في سوريا، القدس الشرقية في فلسطين، شط الأردن في الأردن الجو الثقافي الفكري وقتها كان جو انكسار وإحباط عام.
وبدأ في الظهور الجنوح نحو الكيانات الإقليمية، مثل تأسيس مجلس التعاون الخليجي في مايو عام 1981م، واتحاد المغرب العربي الذي تأسس في فبراير عام 1989م، من خمس دول هي " تونس المغرب الجزائر ليبيا موريتانيا.
ولعل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971م، هو ردة فعل إيجابية سياسية وثقافية على فكرة التفتيت، وموت مشروع الوحدة العربية.فكرة التأسيس نفسها في بقية الدول الخليجية كان فيها جانبًا ثقافيًا واعيًا يقوم على فكرة الإيمان بوحدة الإقليم، وتطبيق قيمة الشراكة والوحدة بين الأقاليم التي تربطها ثقافة واحدة متقاربة دون التخلي عن الإطار الثقافي الأوسع وهو العربي والإسلامي والعالمي أيضًا.
فجزء من بنية الثقافة الخليجية والثقافة المغاربة هو الإيمان بالانتماء العربي والإسلامي
القيمة الثقافية الأخرى هي فكرة استيعاب أفول نموذج القومية العربية كتيار فكري له رجالاته وهو الذي تأسس منذ 1847م، كرد فعل طبيعي لمحاربة " التتريك "في ظل الاحتلال العثماني ومحاربة سياسة جمعية " الاتحاد والترقي التركية " التي حاولت محو الهوية العربية والإبقاء فقط على هويتين واحدة إسلامية يتشارك العثمانيون مع العرب فيها، وهوية أخرى تركية يعتز الأتراك بها على أساس إنهم المستعمرون للمنطقة.
لذا عمل مفكرو هذا التيار القومي العربي ومنهم " ساطع الحصري، عبد الرحمن عزام -قسطنطين رزيق وغيرهم على محاربة التيار الثقافي التركي المتوغل. انتهاء الخلافة العثمانية عام 1924م، لم ينته معه فكر خطر ابتلاع الهوية الثقافية العربية فقبلها بأعوام 1907م، كان العرب يخرجون من سطوة الاحتلال التركي إلى احتلالات أخرى، فرنسية وانجليزية للمنطقة على وقع سايكس بيكو.أي أن الأمة خرجت من احتلال عثماني لتجد نفسها تحت احتلال غربي
ظلت القومية العربية وسيلة مقاومة للحفاظ على العرب وثقافاتهم وهويتاهم، حتى تجلى ذلك أكثر في خمسينات القرن الماضي وظهور الجمهورية كنظام سياسي خصوصًا في مصر والعراق ونهاية العهود الملكية في البلدين ومعها علت أكثر فكرة القومية العربية وتيارت أخرى مثل اليسار الإسلامية والاشتراكية، ظل الأمر هكذا حتى جاءت هزيمة عام 1967م، ومعها سقطت القومية العربية كتيار فكري وسياسي واستمر هذا حتى السبعينات زمن التأسيس الخليجي.
ما بعد الخوف.
الذين يرفعون شعار الخوف على الهوية الثقافية الخليجية مخطئون رغم كم الدراسات والأبحاث والكتب التي ظهرت تدق ناقوس الخطر خوفًا من ذوبان الثقافة الخليجية، الاستعمار الثقافي، وتركيبة المجتمع الخليجي. مع انتهاء الخمسين عامًا الأولى لتأسيس الدولة الخليجية أرى أنه لا مجال للحديث عن الخوف عن الهوية الخليجية، بل إننا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد الهوية.
ببساطة لأن التجربة الزمنية والسياسية والثقافية والاجتماعية أثبتت أن الثقافة الخليجية عبر الخمسين عامًا الماضية لم تذب ولم تتهدد بل ظلت راسخة، قوية ومتماسكة، مازال الخليجي يحتفظ بزيه وغنائه وفولكلوره، وقيمه الأخلاقية وموسيقاه وآدابه، واندماجه أيضًا في المجتمع العالمي والإنساني، بل أصبح سباقًا ومبادرًا في جوانب التسامح، السلام، إنسانية الكون والعالم
وحدثت طفرة ثقافية واعية، صحيح لم تكن على مستوى الطفرة الاقتصادية والتقنية لكنها لم تتوقف أو تتجمد بل ظلت تتحرك ولم تقف وظلت تنمو.
الأسباب التي تدفعنا للقول بثبات الثقافة الخليجية هو التحدي الأكبر الذي أثر كثيرًا على دولة راسخة مثل مصر والسعودية مثلاً وهو ظهور أيدولوجية الإسلام السياسي والتيارات المتطرفة في مصر في بداية السبعينات والتي أدت إلى تهديد حقيقي للمجتمع المصري تمثل فيما عرف وقتها بالصحوة الإسلامية في مصر طوال عهد السبعينات، وعرف بنفس الاسم في السعودية مع بداية عهد الثمانينات، وفي البلدين انتهت تلك الموجة بتغيرات في المجتمع مازلنا ندفع ثمنها حتى الآن.في مصر تم اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر عام 1981م، وعلت موجة القتل والتفجيرات في المجتمع.
في السعودية انتهت ما كانت تعرف بالصحوة بتفجيرات الرياض وخروج فكرة الجهاد إلى أفغانستان في الثمانينيات ثم ظاهرة العائدين من أفغانستان وتبدل الأدبيات لدى هذه التنظيمات الإرهابية من محاربة عدو خارجي إلى محاربة العدو الداخلي. وتكفير المجتمعات.
في السبعينات ومع تولي الرئيس السادات حكم مصر كان التيار اليساري والناصري يسيطر على المجتمع وعلى الجامعات المصرية وكان يبدو معارضًا لسياسات الرئيس السادات حتى ظهر من أقنع الرئيس السادات بالسماح للتيار الإسلامي بالظهور وفتح الأبواب له ليقف في مواجهة التيار اليساري وقد تم ذلك فعلاً وظهر ما عرف وقتها بالجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية التي مع الوقت خرجت منها مجموعة تنظيمات كبرى خطيرة
الدعوة السلفية في الإسكندرية التي مازالت موجودة حتى الآن وكان لها حزب سياسي باسمها بعد 2011م، الجماعة الإسلامية التي قتلت السادات وانحازت للإخوان المسلمين في رابعة.
الجيل الثاني للإخوان المسلمين أو الجيل الذهبي لهم بلغتهم ومنهم عبد المنعم أبو الفتوح "، أبو العلا ماضي، عصام العريان حلمي الجزار، من هذا الجيل خرج أيمن الظواهري في مصر وأسامة بن لادن في السعودية ومنهما خرجت تنظيمات مازلنا ندفع ثمنهم حتى الآن.
في ظل كل هذه التغيرات كان التحدي الأكبر لدى الثقافة الخليجية والدولة الخليجية التي كانت ناشئة وقتها هو تغول الثقافة الإسلامية الإخوانية الإرهابية المتشددة والخوف من ابتلاع الدولة والمجتمع الخليجي ورغم ذلك وبعد كل هذه السنين اتضح أن المجتمع الخليجي والثقافة الخليجية كانت عصية على فكرة الرضوخ لتلك التيارات العنيفة.
الشكل السياسي والتأثير الثقافي
ولعلنا هنا نكون أمام خصوصية خليجية ثقافية تتعلق أولاً بشكل الحكم السياسي الذي تم اختياره وهو " إمارة أو سلطنة أو مملكة أو أمير "، هي أشكال سياسية تختلف عن شكل الدولة السياسية بمعناها الغربي المتعارف عليه وهو إما رئاسية أو برلمانية أو ملكية، هنا كان هذا الشكل السياسي قريبًا ومتماهيًا مع الثقافة الخليجية فلم يحدث تنافر بين ما هو سياسي وبين ما هو ثقافي، تماهت ثقافة القبيلة مع ثقافة الدولة، ولم تكن الدولة متغربة أو غارقة في تقاليد سلطوية غربية مستوردة ممكن تؤدي إلى صدام بنية الدولة وثقافة القبيلة والمجتمع، كل هذا خلق ألفة ومقبولية بين ثقافة الشعوب الخليجية ومتطلبات الدولة.
المتغير الآخر الأهم هو حركية الثقافة الخليجية التي كانت على عكس حركية الثقافة العالمية والعربية، فمثلاً محمد علي باشا في مصر ومن بعده الخديوي، وأبنائه اتبعوا سياسة الذهاب إلى الغرب للاطلاع والتعلم ثم الإتيان بنموذج ثقافي غربي ليتم توطينه في مصر مثلاً، فأرسل مجموعة بعثات كونت فيما بعد نهضة تعليمية كبرى في مصر منذ بداية عام 1813م، واستمر الأمر حتى تم تأسيس كليات الطب والهندسة والحربية وغيرهم وظهر " رفاعة رافع الطهطاوي، محمد عبده، علي عبدالرازق، طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وكلهم تعلموا في الغرب و عاشوا تجربة الصدمة الحضارية وعادوا لينقلوا النموذج الغربي، ثم حدث الإتيان أي المجيء إلى مصر بعد أن أصبحت القبلة الحقيقية للثقافة وللصحافة وللفن، فجاء رشيد رضا من لبنان وجاء جمال الأفغاني من أفغانستان، ثم جاء زكي طليمات وجورج أبيض وعائلة مزراحي وفريد الأطرش واسمهان وآسيا في الفن، وجاء بشارا تقلا وسليم تقلا في الصحافة وهكذا.
الذي حدث في الخليج مختلف إذ أنه في البداية وبدون قصد تحول إلى مجتمع مستقبل ومجتمع جاذب وذلك بعد الطفرة الاقتصادية التي عاشها وظهور النفط، كثير من أبناء الجاليات العربية وجدوا في المجتمع الخليجي بيتًا كبيرًا وهكذا أيضًا جاءت جاليات وثقافات أخرى آسيوية وهندية وغربية.
في هذا الوقت خصوصًا الثمانينات والتسعينات ظهر مصطلح الخوف من الذوبان وأثبتت الخمسون عامًا الماضية أنه تخوف ليس في مكانه، لأن ثقافة الأمة العربية مرت بتخوف مشابه له في بدايات القرن الماضي وهو الخوف من التغريب. وحورب طه حسين وحورب كثيرون باعتبارهم يسعون لهدم الثقافة العربية تحت مقصلة التغريب، وظهر وقتها تخوف الذوبان، والهوية المهددة حركة التاريخ وعداد السنين هو الذي قدم الإجابة، فبعد ما يقترب من 200 عام لم تذب الثقافة العربية ولا الثقافة الإسلامية وإنما حدث التلاقح.
فكرة التركيبة المجتمعية والخوف من الذوبان فكرة خاطئة لأن كلمة ثقافة تقوم في الحقيقة على فكرة التفاعل دون الذوبان لأنها لو ذابت لن يتبقى شيء اسمه ثقافة
وثقافة الخليج محمية بنمط القبيلة والعشيرة الذي هو أقوى من نمط العادات في المجتمعات العربية الأخرى.
مازال الخليجي يحتفظ بأدق تفاصيل ثقافته من ملابسه حتى بيته حتى طعامه، رغم أنه لم ينعزل وأصبح جزءًا حقيقيًا من حراك عالمي بل فاعل فيه ومساهم في نهضته ، لذا يجب على المؤسسات الخليجية المعنية بالثقافة أن تقفز إلى ما بعد الهوية والخوف على الهوية إلى نمط نهضوي ثقافي مؤسساتي حقيقي.ينطلق من التعليم وتكريس نموذج المعرفة الثقافية التي تبدأ من حيث انتهت إليه النماذج العربية والإسلامية والعالمية