array(1) { [0]=> object(stdClass)#13490 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 115

لإيران وتركيا مشروعهما المذهبي والايديولوجي وغياب المشروع العراقي والعربي الأزمة العراقية:الطائفية- الأقاليم- الدولة

الأربعاء، 04 كانون2/يناير 2017

أعادت الأزمة الراهنة الإشكاليات الأساسية التي عانت منها الدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي-البريطاني عام 2003م، وخصوصاً الطائفية السياسية التي أصبحت ظاهرة متفشّية في مفاصل الدولة العراقية وأروقتها، بل إن التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني أصبح السمة الأبرز للحكم ما بعد الاحتلال.

ولم تستطع الدولة رغم مرور 13 عاماً على الاحتلال من حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية، وما يتعلق بالبطالة والضمان الاجتماعي والمتقاعدين، بل إن هذه المعضلات تفاقمت، ممّا عمّق الأزمة السياسية، وأضفى عليها بُعداً شعبياً أخذ بالاتّساع.

قامت العملية السياسية على صيغة المحاصصة الطائفية-الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأسيس مجلس الحكم الانتقالي في يوليو 2003م، بتخصيص 13 عضواً لما سمّي بالشيعة و5 أعضاء لما سمّي بالسنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين. وعرفت الدولة الجديدة التي تأسست على أنقاض الدولة التي قامت في عشرينيات القرن الماضي، باسم "دولة المكوّنات"، التي ورد ذكرها ثمان مرّات في الدستور. أما "دولة المواطنة" فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها. وذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، وإذا ما استمرّ فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.

كان الدستور المؤقت (قانون المرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر في 8 مارس 2004م، تكريساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل بإعداد صيغته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت لاحقا على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وليس مصدر اتفاق وتوافق.

وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الذي تلتقي عنده إرادات القوى والأحزاب ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح تعبيراً عن الإشكاليات والصراعات التي عانت منها الدولة العراقية، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة.

ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط مذهبي على المجتمع. وبالطبع هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية.

ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأت الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك عن أصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.

وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي طالما تتحكّم بالملايين من البشر الذين يعانون من البطالة والأميّة مع ضخّ الأوهام الطائفية، والغريب أن الفساد يشمل الإدارة السياسية والاقتصاد والاجتماع والثقافة والمجتمع المدني لدرجة زكّمت الأنوف.

الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً عن مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي-الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيه وأتباعه، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني.

ومن مظاهر الأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟.

ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما وأن بعض التوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية، فوق الولاء للدولة، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم. وذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية.

الأزمة وسياقاتها

ثلاث دوائر تتحرك في إطارها الأزمة العراقية، الدائرة الأولى تتمثّل في حركة الاحتجاج ومطالبها، سواءً العاجلة أو الآجلة والتي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقق أهدافها، لاسيّما البعيدة.

الواقع لا زال يشي بالتشاؤم بفعل عقبات كبرى قد تؤدي إلى احتواء حركة الاحتجاج أو إجهاضها أو شقّها، خصوصاً أن بعض الأطراف تريد الانفراد في قيادتها، بغض النظر عن استجابة رئيس الوزراء لمطالب الإصلاح، لكنها ظلّت حتى الآن فوقية ولم تمس جوهر المشكلة، لاسيّما إعادة الخدمات ومحاسبة الفاسدين وردّ الاعتبار للدولة ووضع حدّ للطائفية والتقاسم، علماً بأن حيدر العبادي بلا حلفاء أو أصدقاء، حتى وإن كان جمهوراً واسعاً يؤيد الإصلاح، لكن أعداء الإصلاح والفاسدين يشكلون جبهة قويّة، وإنْ اختلفت مصالحهم.

أولاً -حركة الاحتجاج ومآلاتها

إذا راجعنا شعارات التظاهرات في العراق، نلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وتتلخص بـ:

1-         تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولاسيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة وإيجاد فرص عمل متكافئة وهي أمور آنية. وعانى العراقيون من تفاقمها، الأمر الذي دفعهم إلى النزول إلى الشوارع مطالبين بتحسين الخدمات وبالإصلاح.

والوجه الآخر هو الدعوة إلى مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وتقديم هؤلاء إلى القضاء، وقد تفشّت ظاهرة الفساد بعد الاحتلال، خصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا.

2- مواجهة مظاهر تفكّك الدولة، خصوصاً تحديد المسؤوليات لسقوط الموصل بيد داعش في 10 يونيو2014م.

        

3-      نبذ الطائفية وردّ الاعتبار لمرجعية الدولة، واعتماد مبادئ المواطنة التامة والمساواة الكاملة أساساً للحصول على الوظائف العليا وإلغاء التمييز الطائفي والإثني والديني والعشائري ومناطقي وغير ذلك. وبسبب فشل محاولات تديين الدولة أو تطييفها أو مذهبتها، انطلقت بعض الدعوات لقيام الدولة المدنية.

قد تكون الدعوة إلى قيام دولة مدنية (الآن)، من باب التعبئة السياسية، إذْ يعتقد الباحث أنها غير ممكنة التحقيق في الوقت الحاضر بسبب اختلال موازين القوى، أي أنه ليس مطلباً راهنياً، بل طموح بعيد المنال.

وألقى هذا الاشتباك بين الدين والسياسة بثقله على المجتمع لدرجة أصبحت الحياة الشخصية مهدّدة ويتم انتهاكها كل يوم تحت مزاعم شتى، ناهيكم عن تجييش الكثير من أبناء الطوائف وشحنهم والانتقام من الآخر. ولذلك ارتفعت الشعارات التي تعبّر عن أمنيتها لقيام دولة مدنية، ولاسيّما شعار "سلمية .. سلمية.. دولة دولة مدنية".

إن أهمية تلك الشعارات تكمن في نزع القدسية عن رجال الدين، والتعامل معهم كبشر يخطأون ويصيبون، وإذا ما أرادوا تقديم أنفسهم "كمرجعية" لطائفة، فعليهم أن يكفّوا عن التعاطي بالسياسة، لاسيّما بعدم الانحياز لهذا الفريق أو ذاك وتحت عناوين مصلحة المذهب أو الطائفة، فالمصلحة الوطنية هي التي ينبغي أن تتقدّم على جميع الولاءات.

لا يمنع الدستور أو قانون الانتخابات من انخراط رجل الدين في السياسة، ولكن السياسة تحتمل الكثير من المراوغة والتجاوز على الحقيقة وتقديم المصالح الأنانية على حساب القضايا الوطنية، ومثل ذلك لا يليق برجال الدين.

إن دولة الحماية التي نفتقر إليها لم تعد كافية على النطاق العالمي، خصوصاً وإن دولة الرعاية، بل والرفاهية، أخذت تشمل الميادين المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية وكل ما يتعلّق بالقضايا التنموية، فما بالك حين نعجز عن الوصول إلى دولة الحماية، لتأمين الحد الأدنى للمواطن في أمنه وحياته وممتلكاته، فضلاً عن ضبط النظام والأمن العام.

ثانياً-الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى

الفيدرالية حسب الدستور العراقي، جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة، وفيما لو حصل خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الأول يخضع للثاني وليس العكس، وليس بمستطاع قيادة الجيش بما فيه القائد العام للقوات المسلحة نقل أو تحريك قطعات عسكرية من وإلى الأقاليم، إلاّ بموافقتها. وحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج.

وبالقراءة القانونية فإن هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل دويلة بغض النظر عن النوايا، طالما ستكون هناك امتيازات وصلاحيات فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها ستكون " حقوقاً " مكتسبة، خصوصاً وقد تضمنها الدستور، وليس بعيداً عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة. وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، ولم يتم حلها لحد الآن. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي المادتين 111 و112، اللتان تنصّان على: 

مادة 111-النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كلّ الأقاليم والمحافظات.

 مادة 112-أولاً: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المُستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم المُنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصّة لمدّة محدّدة للأقاليم المتضرّرة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.

ثانياً: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.

          وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات مختلفة، بل ومتناقضة ولإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها.

إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيدرالية أو " الأقاليم" إمّا وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة، وخصوصاً للكرد، ولكنها قد تؤدي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، أو اعتبار الفيدرالية بعبعاً مخيفاً، باعتباره طريقاً للانفصال والإنقسام، الأمر الذي سيبقي على المركزية الشديدة الصارمة، بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيدرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق وقد يكون موحى به. وهكذا يتعامل الفرقاء مع الفيدرالية حسب أهوائهم التي تتراوح بين المقدّس والمدنّس.

الفيدرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينيات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية، كانت تطويراً لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينيات " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره في إطار الوحدة الوطنية كما اختارها، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، وظهرت مشكلات قديمة وجديدة، خصوصاً ما يتعلق بكركوك أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها، والتي ورد ذكرها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 اكتوبر 2005م.

وكان الدستور الدائم امتداداً للقانون الذي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئاً بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين إن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحًى مختلفاً. ولذلك وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق خارج اللعبة الانتخابية، ولكن ما أن تدبّ الخلافات فيتذكّر كل طرف الدستور حتى وإن كان يتعارض تماماً مع ما يقول.

إذا كانت الفيدرالية الكردية تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة، وإن النظام الفيدرالي هو صيغة متطورة أخذت بها نحو 40% من سكان العالم، وشملت 30 دولة، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء من المشاركين بالعملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم، خصوصاً وإن العراق، بحاجة إلى لا مركزية وتوزيع الصلاحيات، لكن تأويلات هذه الفيدرالية جاءت ملتبسة للعديد من الجماعات السياسية.

فالقوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيدرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل وتهميش السنّة، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال، وفكرة الأقاليم بما فيها " الإقليم السنّي" التي عارضتها وتحفّظت عليها الكثير من القوى، بدت وكأنها " مقبولة" حيث أعيد طرحها بعد احتلال داعش الموصل وتشكيل الحشد الشعبي ودخوله المناطق ذات الأغلبية السنّية.

والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيدرالية، بدأت تتحفّظ عليها في المبدأ والتطبيق، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الأغلبية العربية السنية المطالبة بالفيدرالية، وكانت النتائج: هيمنة داعش وجزع فئات واسعة من السكان دفعها لعدم اتخاذ موقف من استيلاء داعش على الموصل وكأن الأمر لا يعنيها.

أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كياناتهم المستقلة، ويريدون تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانهم، خصوصاً إذا حصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً بأن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي.

وإذا كانت دولة ما قبل الاحتلال تتّسم بالشمولية، فإن دولة ما بعد الاحتلال انتقلت من التعثر في وحدتها إلى استفحال الأزمة بخصوص حاضرها ومستقبلها، لاسيّما في ظل ارتفاع وتيرة عوامل التفكيك والتشظي والتفتّت.

وشهدت البلاد عنف منفلت، مع استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع أمريكيا 2008م، مع إن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية 2011م، باءت بالفشل، الاّ أن النفوذ الأمريكي لا يزال متحكّماً ويظهر دوره في الأزمات، في ظل وجود اتفاقية مجحفة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات " لعام 1969م، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي.

يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم، وهذا النفوذ لم يعدّ خافياً لا من جانب بعض القوى العراقية، ولا من جانب إيران، فخط دفاع طهران كانت بغداد منذ احتلال العراق العام 2003م، وإيران لا تزال تلعب دوراً كبيراً في العراق و بعض دول المنطقة.

ثالثاً-الدولة الفاشلة: ماذا تعني؟

من مظاهر أزمة الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، هو عجزها عن حماية الاستقلال، أو استعادته كاملاً، بالاضطرار إلى التوقيع على اتفاقيات مجحفة ومذلّة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، بالضد من اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات" لعام 1969م، التي تفترض التكافؤ والمساواة عند عقد أية اتفاقية، وإلاّ ستكون مثل هذه الاتفاقية مخالفة لقواعد القانون الدولي.

وبسبب ضعف العراق، اضطرّ للسكوت عن تدخّلات وتجاوزات لحدوده وأراضيه واختراق سيادته، وهو الأمر الذي يحصل مع إيران الذي لها اليد الطولى، ومع تركيا يومياً بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني.

 من مظاهر الأزمة أيضاً عدم إحراز أي تقدّم في العدالة الاجتماعية، هو تقليص دائرة المشاركة السياسية والشعبية وعدم تحقيق المصالحة الوطنية، على الرغم من المشاريع الكثيرة الفاشلة، والسبب يعود إلى عدم توفّر إرادة سياسية، فالكل يعلن عن رغبته في التوافق، لكن التوافق الذي يفهمه لا يعني سوى الامتثال إلى رأيه لدى أي خلاف.

أما المظهر الأخطر للأزمة، فهو حالة التفتيت والانشطار العمودي منذ الاحتلال وحتى الآن، والتي تنذر بعواقب وخيمة ليس بعيداً عنها مشروع جو بايدن لعام 2007م، لتقسيم العراق إلى 3 دويلات (تحت عناوين فيدراليات) ووضع نقاط تفتيش Check point بينها وتخصيص 300 ألف جندي لمراقبة حدودها وإصدار هوّيات Identity أقرب إلى جوازات سفر للتمييز بين أبناء المناطق المختلفة حسب سكنهم والأماكن التي يقطنونها، وسيكون ذلك جزءًا من تطهير طائفي وإثني جديد أما التقسيم سيكون كارثة على العراق الذي سيختفي من الخارطة السياسية.

ويذكّرنا مشروع بايدن بسؤال طرحه غراهام فولر الدبلوماسي والسياسي في مؤسسة راند Rand الأمريكية (المقرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA) هل سيبقى العراق موحداً العام 2002؟ وعاد وكتب دراسة في العام 2002م، عنوانها "العام الأخير لصدام حسين"!، وكان ذلك تمهيداً لاحتلال العراق، وجزء من نظرية التفتيت التي اشتغلت عليها مؤسسات الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأمريكية والغربية، منذ اندلاع الحرب العراقية –الإيرانية، باعتبار الصراع في المنطقة هو بين سنّة وشيعة، وبين فرس وعرب وبين دولتين نفطيتين، وليس القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية وإن الصراع العربي – الإسرائيلي هو الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ما أريد الترويج له والعمل على أساسه لتفتيت دول المنطقة، والعراق كان بروفتها الأولى.

لعلّ غراهام أي فولر لم يكن خيالياً عندما كتب " هل سيبقى العراق لغاية العام 2002" خصوصاً باستمر الحصار والنظام حينها!؟ ننقل هذه الفقرة الجوهرية التي يريد الوصول إليها: دولة على درجة عالية من الاستبداد للحيلولة دون التفسخ، ولكن من شأن هذه الدولة الاستبدادية، أن تحرم البلاد من الاستقرار السياسي، الأمر الذي يغرق البلاد بالمقاومة الداخلية والتدخلات الخارجية، وربما يغريها للسعي للمقاومة الخارجية للتعويض عن ضغطها الداخلي.

وضمن هذا السيناريو يمضي فولر: لقد شهدنا تلك التجربة عندما شنّ العراق حربين ضد جيرانه خلال عقد واحد. ثم يواصل فولر حبكته الدرامية بالاستنتاج التالي" ومما يدعو للمفارقة أن التدخل الخارجي ربما يكون السبيل الوحيد لانقاذ وحدة العراق، لأن استمرار نظام الحكم البعثي، سيؤدي إلى تعميق الخلافات الطائفية والدينية التي يصعب التوفيق بينها داخل العراق."

ويفصح على نحو واضح عن استراتيجيته أمريكا إزاء العراق، التي عبّر عنها كلينتون وآل غور وكريستوفر وليك بالقول " فالسياسة الأمريكية تجاه العراق تنطوي على مسائل تتجاوز مصير دولة معتدية لحقت بها الهزيمة، بل إنها تشمل على العديد من القضايا ذات الاهتمام الدولي. ويعددها على النحو التالي:

1-   يعتبر العراق واحداً من أخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة التدميرية وهو " مصدر قلق"!

2-   العراق هو الدولة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تم دحرها وترويضها عسكرياً بموجب النظام العالمي الجديد.

3-   ستظل " الوحدة الإقليمية " للعراق ليس موضع شك، بل ربما يتقرر استمرار وحدتها جزئيا بسياسات المجتمع الدولي.

وإذا كان كريستوفر قد صرّح بـ " إني قلق بشأن الذين سيخلفون صدام حسين بقدر قلقي منه... فإن العامل الخارجي الذي يبرر التآكل التدريجي للدولة العراقية، يلتقي مع العوامل الداخلية، التي تؤدي إلى ذبولها إذا جاز التعبير وبالتالي انهيارها".

ولكي نتعرف على طبيعة الدولة العراقية وقيام مؤسسات المجتمع المدني لا بدّ من العودة إلى قراءة بعض عناوين ومحطات قيام هذه الدولة وما وصلت إليه البلاد في الوقت الراهن.

لقد أقيم العراق الحديث بلبنته الاولى في اتفاقية سايكس –بيكو. وضم هذا البلد خليطاً من قوميات وعناصر متنوعة. وإذا كان العنصر العربي الأساس في المجتمع العراقي، خصوصاً في الوسط والجنوب والغرب وجزء من الشمال وبمحيطه العربي الأوسع، فإن العنصر الكردي تفوّق في كردستان، إضافة إلى وجود تركمان وآشوريين ويزيديين وأرمن وصابئة وغيرهم.

وإذا كان التنوّع من خلال التعايش دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس – مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920م). فلم يكن سوى نوعاً من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار.

ومع أن الملك فيصل الأول حاول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود وبعد خبرة في الحكم دامت 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932م) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهح لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924م، الذي قسّم العراقيين إلى فئة "أ" و فئة "ب" فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وانسابهم إلى الفئة "ب" في حين أن الفئة "أ " نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس).

لقد استهدفت ثورة 14 يوليو 1958م، معالجة اختلال التوازن في الدولة العراقية، خصوصاً نهج العزل والتمييز واللّامساواة، بالسعي لتوسيع قاعدة الحكم وتحرير الارادة الشعبية والتخلص من النفوذ الاستعماري ومظاهر تزييف الحياة البرلمانية وقيود العشائرية، لكن الأمور سارت باتجاه أكثر ضيقاً وتدريجياً بدأت ملامح الحكم العسكري تحكم قبضتها على البلاد وتفرض نوعاً جديداً من الهيمنة ومصادرة حق الآخر، ودخلت البلاد دوامة الانقلابات ودارت في حلقة الشمولية التوتاليتارية.

أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر-زلماي خليل زاده، فإنها توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وتمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ 2003م، ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له.

ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية.

 فالشيعية السياسية، خاصة المسلّحة، وتحت تسميات "الحشد الشعبي" الذي هو جيش موازي للجيش النظامي، نقول إن الشيعية السياسية المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش.

ويضم الحشد الشعبي الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وجيش المهدي المرتبط بمقتدى الصدر وكتائب حزب الله، وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي.

نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى ركيزتين: الأولى هي التحالف مع إيران، أما الثانية فهي وقوفها ضد عودة القديم، أي الحيلولة دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي.

أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية من الخطر الشيعي ومن تدخّلات إيران والتمدّد الصفوي بهدف التعبئة ضد خصومها من الشيعية السياسية، ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة الإقليم السنّي للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية.

ويعبّر الكرد عن مشروعهم الموسوم بقيام كيان خاص بهم " دولة" بمناسبة أو غير مناسبة، وهم أكثر وضوحاً وشفافية، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير الذي أقرته المعارضة العراقية منذ العام 1992م، في مؤتمر فيينا وصلاح الدين. ومع إن مشكلات تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الداخلية والمنافسات السياسية والحزبية الحادة، فإن هناك تحفظات إقليمية ودولية بهذا الخصوص وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة 3/5/2015م.

 وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص " دولة" في طريقه للتحقّق إن آجلاً أو عاجلاً، ولكنه يحتاج إلى وقت وتدرج، خصوصاً أن غالبية الشعب الكردي حسبما بيّنت الاستفتاءات تؤيد ذلك وتبقى مسألة التوقيت تحتاج إلى ظرف مناسب، وإلاّ فإن إجهاضها سيوجه ضربة جديدة لآمال الحركة الكردية. أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، ولا زال المسيحيون (الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم من مناطقهم في الموصل وبعض قرى سهل نينوى.

وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق.

رابعاً -من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة

إذا كانت مظاهر الدولة الفاشلة تجسّدت في عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وعجزها عن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، فإن هذه الدولة أخذت تنحدر تدريجياً من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة والكيان الهش المعرّض للتفتت.

إن العراق دولة رخوة وكيان هش وبدأ يتحلّل منذ الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988م، حين بدأت إرهاصات الطائفية تأخذ طريقها إلى السياسية بتهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية، وزاد تدهور الدولة بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس 1990م، وحرب قوات التحالف ضد العراق 1991م، وتدريجياً بدأت الدولة بالتراجع، حتى أن إقليم كردستان أصبح خارج سيطرتها منذ نهاية 1991م، ثم وقع العراق تحت الاحتلال عام 2003م، وبعد حصار دولي دمّر النسيج العراقي دام نحو 13 عاما.

ولا يقلّ العجز السياسي عن العجز الاقتصادي، بل إن كليهما يثبت هشاشة ورخاوة وعجز الدولة، ولا يمكننا فقط التركيز على الوضع الذي وصلت إليه البلاد على الاحتلال، وإنْ كان أساسياً، لكن العامل الإقليمي مهم جداً بوضع مثل العراق، فلإيران مشروعها السياسي القومي المذهبي الايديولوجي، ولتركيا مشروعها السياسي القومي المذهبي الايديولوجي.

إن عدم وجود مشروع عراقي موحّد أو مشروع عربي جامع للعب دور توازن مع المشروعين الإيراني والتركي، إضافة إلى المشروع الصهيوني الذي له يد طويلة في الامتداد والاختراق، أقول إن غياب هذا المشروع يعني أن العراق الذي نعرفه قد يتعرّض كيانه للتفتيت أو للتجزئة.

تحدّيات داخلية وخارجية

إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:

1-              تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، سواء باستخدام القوة العسكرية أو اقتطاع الأراضي، أو إجبار العراق على توقيع اتفاقيات "سلام" استسلامية مع "إسرائيل" وإنهاء كل علاقته بالقضية الفلسطينية وفتح أسواقها للصناعات "الإسرائيلية".

2-               تحدّيات داخلية، أخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة.

وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المصحوب بالكراهية والحقد، ولاسيّما علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الإنقسام إلى احترابات، وإن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم " طائفيون بلا دين" على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.

إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات " الإرهابية" سواء اتخذت اسم جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية.

الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة

هل سيتعرّض العراق إلى التفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، وثانيهما سيناريو التوحيد وخصوصاً إذا ما توفرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟

أولاً-سيناريو التفتّت

1-              التفتّت الواقعي، بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات لا يربطها رابط وثيق سواءً كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها.

2-               التفتّت الرسمي، وهو الشكل الفعلي للانقسام وقد يتحقق بالقوة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير القائمة، وسيكون لها نشيدها وعلمها، ومؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو مرحلة أخيرة للأمر الواقع.

3-               الانضمام والإلحاق، وهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الفعلي، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالحالمشتركة "القومية" أو "المذهبية"، وأعتقد إن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، خصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.

ومن العوامل التي تساهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات وعدم تلبية المطالب الشعبية، وعدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الارهاب وأعمال التفجير وتدهور الوضع الأمني، واستمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة والتخلّي عن مساعي الانتقام وكسر شوكة الآخر.

ثانياً-سيناريو استمرار الحال

 وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه، ويعني فشل خطط الاصلاح، بسبب عوامل الكبح من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، خصوصاً وأن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل على عدم فتح ملفّات الفساد.

ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين: فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة في الأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟

هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً الذهاب إلى انتخابات؟

إن استمرار الحال لم يعدْ ممكناً، وفي أحسن تقدير: أما الإطاحة بالعبادي، لاسيّما إذا بقيت الاصلاحات فوقية.

ثالثا-سيناريو التوحيد  

إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب بشأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته.

إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي " القابلية على الاستعمار"، لاسيّما وأن النخب السياسية تملك المال والسلطة والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، ولذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.

كما إن إجراء إصلاحات قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع الكثير من أن المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، تعرقل أي لقاء بينها، بل وتضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.

وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة والتي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش فجرى اجتثاثها.

يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن التجاوز عليها، وأولها الحرية وثانيها المساواة وثالثها العدالة، ولاسيما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهوّية الجامعة، مع احترام الهوّيات الخصوصية.

  • خاتمة

بين الطائفية والمواطنة فرق شاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلاّ أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، وسيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظّم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، ما يتطلب التصدّي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها، بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة.

وإذا ما اقترنت الطائفية بأفعال من شأنها أن تؤدي إلى انقسام المجتمع ونشر الفوضى، وقد تقود إلى حرب أهلية، فإن ذلك يرتقي إلى مصاف جرائم أمن الدولة، بما فيها جرائم الإرهاب، وقد تصل إلى جرائم الخيانة العظمى إذا ما ترافقت مع تحريضات لأجندات أجنبية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى ما لا يُحمد عقباه!!

ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى لنشر الطائفية، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب إلى ذلك المجتمع أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها.

كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية، بغية إثارة النعرات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوّية الجامعة، التي أساسها الوطن والإنسان، ويقتضي ذلك منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء إلى الطوائف الأخرى، الأمر الذي يتطلّب إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية عن أية انحيازات أو تخندقات طائفية، وقد يحتاج الأمر إلى إعادة التجنيد الإلزامي لجميع العراقيين.

       ولا بدّ من حظر استخدام الفتاوى الدينية لأغراض سياسية، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن السياسي، وهذا ينطبق على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والأندية الرياضية والأدبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أية اصطفافات طائفية أو مذهبية.

إن بناء دولة دستورية عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة-المانعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مفكر وأكاديمي عراقي 

مجلة آراء حول الخليج